شعريَّة التضاد في «لك هذا الجسد لا خوفَ عليَّ»

ثقافة وفن
  • 9-09-2021, 09:13
+A -A

  أ.د. سعد التميمي
 

ليصلك المزيد من الأخبار اشترك بقناتنا على التليكرام
في ديوان (لك هذا الجسد لا خوف عليَّ) ترسم الشاعرة أمل الجبوري ملامح اسلوبها في معجم شعري يعكس إصرارها في مواجهة الآخر، مما جعل القصائد تتسم بطابع نسوي، فضلا عن تقديمها للعديد من قصائدها بأقوال نسوية مثل عشتار إلهة الحب والجمال، وانخدوانا أول شاعرة، اللتين اتخذتهما قناعاً لها في بعض القصائد مثل (الكاهن، وانخدوانا، وغوته).                           
  وإذا كانت الصورة الشعرية من الخصائص المميزة في الديوان، فإن التضاد يعد الخصيصة الأبرز، اذ هيمنت الثنائيات الضدية لتعكس حالة التشتت والانفصام التي تعيشها الشاعرة، لتكون قريبة من المتلقي من خلال القوالب اللغوية تحركت في المعاني المتناقصة والمتنافرة، ويطالعنا التضاد في الغلاف المجموعة، فاللوحة التي اختارتها الشاعرة تتوسط اسمها والعنوان وتتضمن صورة رجل وامرأة، وعلى الرغم من أن كلا منها يكمل الآخر إلا أن موقف الشاعرة من الرجل يجعلنا نقول هذه اللوحة هي أولى الثنائيات الضدية اختارتها الشاعرة أداة لإيصال مشاعرها وانفعالاتها، وبنظرة دقيقة للعنوان نصل إلى هذه الحقيقة فهو يتضمن أكثر من ثنائية وأولى هذه الثنائيات بين (أنا) الشاعرة المتمثلة بـ (هذا الجسد)، والضمير في (عليَّ) والآخر (الرجل) المتمثل بضمير المخاطبة في (لكَ)، وهنا يتجسد تهميش الشاعرة للرجل إذ اكتفت بضمير المخاطبة للدلالة عليه، فضلا عن أنها اشارت إليه بكلمة (خوف) فخوفها من الآخر (الرجل)، أما الثنائية الأخرى فهي بين الجسد الذي تهتم به الشاعرة فهي تمنحه للآخر في قولها (لك هذا الجسد)، وبين الروح المتمثل بضمير المتكلم قولها (عليَّ)، وتأتي الثنائية الثالثة بين الإثبات الجملة الأولى (لك هذا الجسد)، وبين النفي الجملة الثانية (لا خوفَ عليَّ)، فهذه الثنائيات المكثفة في العنوان تعكس إصرار الشاعرة على الوقوف ندا للآخر (الرجل)، واقتناعها بأن التضاد خیر ما يصور ويعكس المشاعر والانفعالات التي تحملها تجاه كل ما يدور حولها، والتي ترى بأن الآخر (الرجل) الحبيب والصديق والحاکم مسؤول عنه.            
 وهذه الهيمنة للتضاد في العنوان تنسحب إلى القصائد أيضا التي تتخذ فيها الشاعرة من التضاد أداة للتعبير عن أفكارها ففي قصيدة “سطوة” تقول: 
 
أغمضُ عينيّ
 فيموت النهار
وحين أشمُّ حضورَكَ 
ينوي الليل 
أفتح أجفاني 
وأطلق سراح الشمس 
 
  فالتضاد الذي يهيمن على مجمل هذه القصيدة يشحن صورها بطاقة دلالية عالية تزيد من جمالية التعبير، وأول ثنائية ضدية تصادفنا في هذه القصيدة بين (انا) الشاعرة والآخر المتمثل بضمير المخاطبة في قولها (حضورك)، وهو الحضور الوحيد للآخر في هذه القصيدة أما (أنا) الشاعرة، فيتكرر أربع مرات في الأفعال (أغمض، أشم، أفتح، أطلق)، ومن الثنائيات الأخرى التي ترسم من خلالها الشاعرة صورة العلاقة بينها وبين الآخر، (أغمض، أفتح) و (الليل، النهار) و (يموت النهار) و (اطلق الشمس)، فمرة يكون التضاد بين المفردات وأخرى يكون بين التراكيب، وهذه الهيمنة للتضاد ترسم معاناة الشاعرة ومآسيها التي طالما عبرت عنها في هذه المجموعة، وتقوم شعرية التضاد على الاختيار الناجح للمفردات والتوظيف الدقيق للسياق الذي يسهم أحيانا في رسم أبعاد التضاد، وهذا ما نلاحظه في قصيدة “تقاسيم على وتر الوحشة” التي ترسم فيها الشاعرة المعاناة التي تخلفها الغربة المفروضة في النفس، إذ تقول في جانب منها:     
                 
النوم أيها
تعال وهشم رأس الأرق 
تحت سماء الطاولة 
الحاضرون - غائبون
 تارکین لنا متاع السود 
في ساقين تتناوبان المشهد، وقيامة الجسد في لحظة مهشمة
... 
حتی متى 
أدير العناق
الى الفراق 
 
    إذ تزاوج الشاعرة بين التضاد والمفارقة الدلالية التي يحققها الانزياح في استعمالها لأسلوبي النداء في قولها (أيها النوم)، والأمر في قولها (تعال وهشم)، والتركيب الاضافي (رأس الأرق)، فهذه الصور التي تقوم على المفارقة فضلا عن التضاد بين “النوم” و “الأرق” تصور وبشكل جميل الحال التي تمر بها الشاعرة، ويأتي النداء ليمثل الاستنجاد الذي تطلبه الشاعرة للخلاص من معاناة الغربة، التي عبرت عنها بكلمة “الأرق”، ويأتي الإخبار عن الحضور بالغياب ليؤكد تلك المعاناة ويسهم التضاد في رسم صورة مجسمة للشاعرة وهي تكتوي بنار الغربة، وهذا ما عبرت عنه في مطلع القصيدة عندما قالت (أقدارنا كلاب تجرنا إلى الحتف)، فالشاعرة تحمل في غربتها آلام ومعاناة شعبها وبلدها مثلما تحمل معاناتها الذاتية، وعندما أرادت أن توصل ذلك كله إلى المتلقين حاولت أن تنقله بالشكل الذي يضمن تفاعلهم مع خطابها الشعري الذي ابتعدت فيه عن الغنائية والمباشرة وعكست فيه آراءها وإرث بلدها الحضاري والثقافي، ولما كان البعد عن الوطن غير مقبول فإنها ختمت قصيدتها بجملة شعرية معبرة قامت على التضاد بين «الفراق» و«العناق»، ويأتي الاستفهام ليزيد من الطاقة الدلالية للتضاد، وهذه المعاناة الناجمة عن الابتعاد عن الوطن هي التي دفعت بالشاعرة إلى الارتماء في أحضان إرثها الحضاري واختيار (انخدوانا) ابنة الملك سرجون الأكيدي والتي تم نفيها من اور قناعا لها عبرت من خلاله عن رفضها لكل صور الدمار من حرب وخراب وخيانة، وهذا ما جسدته في قصيدة (انخدوانا وغوته)، أخيرا في الديوان الكثير مما يتطلب الوقوف عنده وتحليله وبيان جمالياته مثل الرموز وتوظيفها والايقاع ودلالاته، فضلا عن اللغة وأساليبها ومستويات التعبير
فيها.