كولاج تأويل تقانة الكتابة

ثقافة وفن
  • 26-06-2021, 07:43
+A -A

علي شبيب ورد

 

إن ذاكرة الشعر العالمي عموما، والعربي والعراقي تحديدا، تشير الى حدوث تحولات ملموسة في حركة الشعر (سيميائيا ودلاليا) عبر الأزمنة. وهذه التحولات فرضتها ظروف موضوعية وذاتية أثرت في هيئات مثول النص الشعري أمام المتلقي، خلال حركته وتطوره. وقد وثقت الذاكرة الثقافية، ظواهر شعرية ريادية بارزة، كانت متنوعة في أماكن وأزمنة ظهورها وتأثيرها وانتشارها، عالميا أو عربيا أو عراقيا، في النشأة والتشكل. وقد لعبت البحوث والدراسات والمناهج النقدية، دورا مهما في اغناء الذاكرة الشعرية عموما، بما تتطلبه من أرشيف (سمعي/ بصري) للنص الشعري والنص النقدي النظري والتطبيقي. وعلى ما تقدم، يمكن القول إن ما تعنيه (الشعرية) هي حركة التحولات الشعرية على مستوى النص ومرجعيات ظهوره ورسوخه من جانب، وعلى مستوى القراءة والتأويل من جانب آخر، إضافة إلى ما تتطلبه تلك التحولات من بحث ودرس نقدي عبر الإفادة من العلوم الأدبية ومجاوِراتِها من العلوم الأخرى. غير أن مواقف ورؤى النقاد والباحثين تنوعت في تحديدها وتعريفها لمفهوم (الشعرية)، وذلك انطلاقا من حقل اهتماماتهم العلمية أو مناهجهم النقدية. ولسوف نتطرق بإيجاز لما يراه نقاد الحداثة الغربيين البارزين حول مفهوم الشعرية:

فالشكلاني - رومان جاكوبسن - يبين لنا ان رؤيته لمفهوم (الشعرية Poétiqu) تنطلق من حقل اهتمامه ألا وهو (اللسانيات) لأنه يعدّها فرعا من اللسانيات، الذي يعالج (الوظيفة الشعرية) في علاقاتها مع الوظائف الأخرى للغة. وهذا يتضح من قوله في هذا المجتزأ (الشعرية يمكن تحديدها باعتبارها ذلك الفرع من اللسانيات الذي يعالج الوظيفة الشعرية في علاقاتها مع الوظائف الأخرى للغة، وتهتم بالمعنى الواسع للكلمة بالوظيفة الشعرية، لا في الشعر وحسب، حيث تهيمن هذه الوظيفة على الوظائف الأخرى للغة، إنما تهتم بها أيضا خارج الشعر، حيث تعطى الأولوية لهذه الوظيفة أو تلك على حساب الوظيفة الشعرية). 

غير أن - تزفيتان تودوروف - يجد أن الشعرية تسعى الى معرفة القوانين العامة التي تنظم ولادة كل عمل. فهو يقول إن (الشعرية لا تسعى الى تسمية المعنى، بل الى معرفة القوانين العامة التي تنظم ولادة كل عمل، ولكنها بخلاف هذه العلوم التي هي علم النفس وعلم الاجتماع... الخ، تبحث عن هذه القوانين داخل الأدب ذاته. فالشعرية إذن مقاربة للأدب «مجردة» و«باطنية» في الآن نفسه). بينما أشار - جون كوهن - وبإيجاز معبر، الى  الشعر أو علم الأسلوب الشعري). 

 

نباهة الطير غواية الغابة

نحن نرى أن وظيفة الشعر، لعبت وما زالت، تلعب دورا مهما في ظهور أية حركة شعرية، بل تكاد تكون سببا رئيسيا في جدوى نشوئها، ومن ثَّمَّ صيرورتها ودوام تواصلها ورسوخها، كظاهرة ملفتة حضورا وتأثيرا. وذلك لأن الموقف من وظيفة الشعر، ساهم كثيرا في تحريض مكونات النص الشعري على التنافس في ما بينها، لتبيان مفاتن حركتها وتأثيرها ضمن منظومة البث الاتصالي. وبالتالي فان الموقف المغاير في رؤيته للوظيفة الشعرية، ساهم في ظهور دعوات جديدة وفي كل المراحل، للخروج من جبروت النسق الشعري الصارم المتوائم مع النسق الاجتماعي والفكري للقبيلة والسلطة الشمولية. ودعت هذه الرؤى وكذلك التجارب الشعرية، إلى التحرر من كل أشكال التسلط (القبلي والسياسي والديني والقيمي) وكذلك الخروج تدريجيا عن المحددات والقوالب في العمود الشعري ومن ثم الشعر الحر وفي قصيدة النثر. وهذه الجدلية في التحولات ذهبت بالشعر صوب فضاءات الأحلام والتطلعات الإنسانية والجمالية، ومواجهة كل عراقيل وموانع طيرانه خارج شريعة الجبروت بشتى تنويعاته. 

الشعر في محاولاته المتواصلة للانعتاق من أغلال السائد والمألوف، هو أشبه بالطائر التواق دوما للطيران خارج الغابة، بحثا عن مفاتن الحرية. لما للطيران من رمزية عالية في التمرد على القيود والفخاخ الأرضية، نحو الآفاق والفضاءات الجالبة للسمو والرفعة. 

حسب - ميرسيا إيلياد – بقوله: (رمزية الطيران في جميع مستويات الثقافة، وعلى الرغم من الفروق الكبيرة في السياقات الثقافية والدينية، إنما تعبر بصورة دائمة عن تجاوز الشرط البشري، وعن التعالي والحرية). كما أن الشعر في محاولاته المستمرة للتجديد نشدانا للمغايرة، عبر مغامراته في البحث عن النائي والهامشي والمعتم والمجهول والغرائبي والمدهش. فهو في الوقت ذاته، يواجه ضروبا من المصاعب والمصدات والعراقيل، وهي معززة بأفانين من وسائل الترغيب والترهيب وحقول الالغام والاسلاك الشائكة. وتساوره من هنا وهناك منظومات إغراء وغواية ومنع وقمع، وسواها من وسائل السلطات المغيبة لحريته، وهذا يتطلب منه التمتع بالحيطة والحذر ونباهة الطير في مواجهة مستمرة لغواية الغابة وضراوة شريعتها ونواميسها الجائرة.

 

أسئلة الشعرية

أسئلة الشعرية، هي أسئلة الكتابة عموما، وفي مقدمتها أسئلة الوجود في عالم النص، بوصفه إعادة انتاج للعالم المعاش - بكل ما يتضمنه - من أسئلة صادمة عن المجريات وتداعياتها الكارثية، تلك المنتجة لرعب وذهول الحيوات، وقلقها المتواصل من المآل المريب المحتوم. تلك الأسئلة التي لا تخلو من الشك بالتابوات، والمشاكسة لكل أنواع متاريس السائد، ودك قلاع المركز، عبر تنشيط الهامش، وتعرية الجبروت عن قداسته، برياح المسكوت عنه. وهذه الأسئلة تتجدد مع تبدل الأزمنة، وتباين الأمكنة، غير أنها تتمحور حول هموم الكتابة وتطلعاتها الإنسانية لعوالم أكثر رحابة وقبولا. ومن أهم الأسئلة ما يتعلق بالحرية، وكيفيات التمرد على تعاليم ووصايا منظومات الرسوخ، تقربا للأجوبة الممكنة. 

غير أن هذه الأسئلة، تتشعبُ وتتسع غابتها، لتشمل كل تفاصيل مراحل انتاج النص وتسويقه، وصولا لعملية الاتصال والتلقي. ونشير هنا الى أن أسئلة المستقبل، لا تفرض نفسها بعيدة عن تأثير الماضي والحاضر، وهذا التأثير تختلف قوته من مجتمع الى آخر. وما يهمنا، أن أسئلة مستقبل الشعرية العربية، ومنها العراقية تحديدا، غالبا ما تكون بلا أجوبة، لأن الفكر العربي الشائع والمهيمن، لا يغادر قداسة الماضي، المُربِكة للحاضر والمُقصِية للمستقبل. وقد اشار - أدونيس- الى أهمية تحرير الفكر العربي، ضمن كلمة ألقاها في تونس عام 1988، بقوله (يقوم هذا التحرير، داخل الفكر العربي، على الانعتاق - جذريا وكليا، من أنساقه المغلقة، القائمة على الإيمان بوجود مبدإٍ أولٍ أصليٍّ يحدد الخيرَ والشر، الحقيقةَ والباطل، ودون هذا التحرير، لا تتعذر الحداثة وحدها، وإنما يتعذر كذلك الفكر والشعر - بحصر الدلالة). إن ذاكرة الشعرية العراقية، تشي الى أنها طرحت أسئلتها عبر كل المراحل، وبتأثيرها حدثت تحولات ملموسة على مستوى النص والدرس. وهذا أدى إلى متغيرات متواصلة في تقنيات الكتابة، وهي مجموعة الوسائل أو الأدوات المستخدمة لإنتاج وتسويق وبث النص الشعري. 

 

عيّنات شعرية

تناولنا هنا عيّنات من تجارب الشعراء: كاظم جهاد/ شوقي عبد الأمير/ كمال سبتي/ عبد الزهرة زكي/ طالب عبد العزيز/ عبد الحميد الصائح/ علي البزاز/ ناجح ناجي/ ناجي رحيم/ شعلان شريف/ صفاء ذياب. 

استنتاجات: من هنا وبعد ما مرّ اعلاه، نود الاشارة الى أهم الاستنتاجات وكما يلي:

- تشير بوصلة التحولات في ذاكرة الشعرية العراقية، الى حدوث تطور ملموس على مستوى النص الشعري ومستوى التلقي. وهذا ما يلمسه الدارس الجاد لتلك الذاكرة، حيث المحاولات التجديدية المتواصلة على مستوى الشعر العمودي والشعر الحر وقصيدة النثر التي شهدت تمردا ملفتا، على ميزاتها الأولى التي حددتها سوزان بيرنار.         

- اعتمادا على عيّناتنا المتناولة، يمكن لنا القول إننا نواجه تجارب شعرية منتخبة، يمكنها أن تشير الى أهم ملامح الحركة الشعرية العراقية الآن. 

- المراجعات المتواصلة للوظيفة الشعرية، أفضت الى تجديد مستمر في تقنيات كتابة النص الشعري، وضمن أنساقه السيميائية والدلالية.

- انصراف الشعراء العراقيين الجادين، الى الاهتمام بترسيخ منجزهم الابداعي، وتوجيه رؤاهم الانسانية لمجريات الراهن العراقي.

- تمرد النصوص على أيديولوجيا المألوف، والطرق على مرمر المركز بمعاول الهامش. 

- اقتناص اللحظة الشعرية المتوهجة، لخلق صورة شعرية منتجة اتصاليا.

- التنويع في آليات تشكيل البنية السيميائية للنصوص، لتفعيل طاقاتها الاتصالية مع المتلقي.

- حضور الملامح المحلية ضمن مكونات النصوص، لتأكيد تفردها، عن النصوص العربية والعالمية.

- الايجاز والتكثيف اللغوي المنتج لأنساق ذات كفاءة عالية خلال عملية الاتصال والتلقي.

- اكتناز البنية الدلالية للنصوص على جملة رموز موحية ومحرضة للذائقة على انتاج نصوص التأويل الممكنة.

- افادة النصوص من تقنية التداخل بين مكونات النص (الحدث/ الشخوص/ الزمان/ المكان) لتحقيق خصوبة منظومة البث الاتصالي.

- انفتاح النصوص مع ما قبلها ومع ما يجاورها من نصوص، أي (التناص) مع نصوص أخرى أدبية وغير أدبية. 

- بعض النصوص اعتمد على تقانة المونتاج لكتابة سيناريو شعري، خلقته عدسة شاعر متبصر، ومخيلة مخرج ماهر، وخبرة مونتير حاذق.

- كشفت أغلب النصوص عن اعتماد البنية السردية، كآلية بث اتصالي بارزة وذلك للإفادة من طاقات السرد في تخصيب النص بمشهدية مؤثرة في المتلقي ومحرضة له تنشيط خزينه المعرفي لإنتاج نصوص ما بعد القراءة.


ليصلك المزيد من الأخبار اشترك بقناتنا على التليكرام