قراءةٌ في ديوان «علامتي الفارقة» للشاعر سلمان داود

ثقافة وفن
  • 1-09-2021, 09:39
+A -A

 أ. د. سعد التميمي
 يعد الشاعر سلمان داود محمد من الجيل الذي عاش وتفاعل مع أجواء الحرب بكل ما حملته من معطيات ونتائج، وقد تسللت هذه الأجواء بما تحمله من أفكار ومعانٍ الى قصائد شعراء شحنوا صور الحرب الواقعية ومفرداتها وتفاصيلها اليومية بشحنات عاطفية ودلالية عالية وعبروا عنها بأساليب وصور عبثية غير مألوفة عبرت عن رفضهم للحرب مما جعلها مؤثرة، وفي ديوان «علامتي الفارقة» يرسم الشاعر سلمان داود صورة مجسة ومؤثرة للحرب التي عانى من ويلاتها باستثمار التفاصيل اليومية للحرب، وصهرها في سياق القصيدة ليفاجئ من خلالها المتلقي بما هو غير مألوف، فهو يوثق صور الحرب المختلفة في معظم القصائد

ليصلك المزيد من الأخبار اشترك بقناتنا على التليكرام
 وتقوم شعرية التفاصيل في الديوان على تحريرها من اطارها الواقعي اليومي الحاضر في ذهن المتلقي إلى سياق القصيدة، من خلال الانزياح والمفارقة يخلق فيها الشاعر علاقات عبثية بين التراكيب ينتج عنها طاقة دلالية شعرية وهذا ما تجسده قصيدة «صورة قيد»، إذ يقول:                                                                                  
اسمي: کريم او 
أضع المرايا امام المدافع كي تنقرض 
الحروب 
عمري:٣٧ شظية وأسىً يتكرر
في تمام الهدنة ظهرا
 وقبيل الصيد بعصفور 
شاهدت الأرض بلا قبان
 والسنوات سنونوات
 ترفرف حول الطواحين بسهو دؤوب
أوصافي حشور تلوح وطحين 
أعمى.
 فالعنوان من التفاصيل اليومية وهو سجل يتضمن أوصاف الشخص يوظفه الشاعر لتوثيق ويلات الحرب، ويشير الى رفضه لها من خلال ياء المتكلم في العنوان وفي مطلع القصيدة (اسمي)، وتأتي المفارقة في عطف الجملة الفعلية (اضع المرايا أمام المدافع..) على اسمه (کریم) لتجسد رفضه للحرب التي رمز إليها به المدافع، ويؤكد ذلك في المفارقة الثانية التي تتمظهر في تسجيله لعمره (37 شظية) إشارة إلى نتائج الحرب ومعاناة، ثم يأتي بمفارقة أخرى بعطف (أسی) علی (شظية) ويصف الأسى بجملة (يتكرر) ليشير الى استمرار ما تخلفه الحرب من جراحات حزن، فهذه العبثية في العلاقات الرابطة بين التفاصيل تمنح الجمل الشعرية طاقة دلالية عالية مشحونة بعاطفة صادقة منحت الصور الشعرية فاعلية وتأثيرا كبيرا، وهذا ما نجده في قوله (في تمام الهدنة ظهرا) فالانزياح بإبدال كلمة الهدنة مكان الوقت في أصل العبارة زاد من طاقتها الشعرية ويتكرر الأمر في قوله (قبيل الصيد بعصفور) وفي قوله (أوصافي: حشور تلوح وطحين أعمى) فهذا التحرير للتفاصيل من أطارها اليومي والواقعي إلى إطار القصيدة من خلال الانزياح والمفارقة وشحنها بطاقة شعرية عالية يضمن للقصيدة من خلال الصور التي ترسمها هذه التفاصيل ملامح جمالية معبرة تنقل المتلقي من الصورة الجامدة إلى الحية ذات الفاعلية العالية ليحقق بذلك الشاعر غرضه الذي يهدف اليه المتمثل في جعل المتلقي يتعايش مع النص ويعيش
أجواءه.                                  
وتبقى التفاصيل اليومية المرفوضة حاضرة في قصائد الديوان، وتأتي العبثية في صياغة الصور لتعكس موقف الشاعر من الحرب، وهذا ما نجده في قصيدة (فارزة)، إذ يقول:                        
أرهق الألغام بتكراره
 ونظف الأسلاك الشائكة من الشهقات 
ذات هجوم
كان النوم منشغلاً بالقتلى
والملجأ مستودع أحلام خلّب
أيقن أن المباهج كالبساطيل
كلاهما لا يذكر في لائحة الخسائر
فأغلق البحر وراءه
ودحرج الأيام خلف الراجمات 
دمه غامض مثل فارزة في أول السطر..
 جنازة الربح مرهونة بصغیره 
إذ ينقل الشاعر مفردة (فارزة) التي يوظفها كعتبة وفي المتن ليصور وطأة الحرب، المفردات التي أشار من خلالها الشاعر للحرب (ألغام، أسلاك شائكة، هجوم، قتلى، ملجأ، مستودع، خلب، البساطيل، الخسائر، راجمات، دم، جنازة هرولة، تسريح، وقوعات، جندي، ثكنة، نماذج، سيطرة، خوذة)، فهذه المفردات هي معجم للحرب اتخذه الشاعر معجما شعريا وأضفى عليه بصمته الشعرية المتفردة من خلال الانزياح الذي يقوم على علاقات قد تبدو عبثية الا أنها مقصودة تعبر عن موقف الشاعر من الحرب بصور شعرية مميزة، ليقابل الشاعر عبثية الحرب وما تخلفه بعبثية العلاقات التركيبية التي خلقها في نصوص هذا الديوان، فالإرهاق الذي تسببه الحرب بآلاتها وشهقات الألم وصیحاته التي تسببها، يسقطها الشاعر علي الحرب من خلال (الألغام، الأسلاك، الشاهقة) ويلجأ الشاعر الى استعمال ضمير الغائب في الأفعال (وأرهق، نظف وأيقن، أغلق) دلالة على فعل التغييب الذي تمارسه الحرب على الإنسان، وتكتسب هذه التفاصيل داخل القصيدة دلالات جديدة ترسم مخلفات الحروب، فالقتلى ينشغل بهم النوم والمستودع الذي تخزن فيه ذخيرة الحرب يصبح مخزنا للأحلام، والخلب العتاد الذي لا يحمل إلا الصوت، يصف به الأحلام التي عادت مجرد تهیئات فارغة من أي طموح يذكر.                                                 
ويأتي تشبيه المباهج التي يبحث عنها تحت وطأة الحرب رغبة في تحقيق الراحة والسرور، بالبساطيل التي لا تملك أي قيمة تذكر في ساحة المعركة، ليصور الانكسارات المتكررة والمعاناة التي تسببها الحرب وانعكاساتها على الشاعر، فتحت وطأة الحرب لا أحد يكترث بالجمال والفرح، وتأتي الاستعارة التي تتحقق بأعمال الفعلين (أغلق، دحرج) بـ (البحر، الأيام) لتعكس اليأس والتشاؤم من الحرب، وهذا ما تؤكده الصورة التي يحيل اليها العنوان التوصيف فيها في الايام يصور حالة اليأس التي يعيشها الشاعر فضلا الى رخص الدماء لدى دعاة الحرب وتجارها، فضلا عن اشارة كلمة دم الغائب بالغامض ثم تشبيهه بالفارزة في أول السطر أي من دون وظيفة ودلالة إشارة الى فعل الحرب.