قراءة في ديوان «كتاب صنعاء» لعبد العزيز المقالح

ثقافة وفن
  • 12-08-2021, 09:25
+A -A

  أ.د. سعد التميمي
 

ليصلك المزيد من الأخبار اشترك بقناتنا على التليكرام
تكشف الرؤيا جماليات جوهر يستتر خلف الواقع، ولا بد لهذه الرؤيا من قدرة تعبيرية تستطيع من خلالها اللغة اختراق الواقع والكشف عن جوهره، وفي القصيدة يتحقق ذلك بالانتقال من اللغة المباشرة إلى الايحائية بتفعيل نظامها الاشاري، ولما كان الواقع بصوره (مدينة، امرأة، طبيعة) يتمظهر في شبكة العلاقات اللغوية التي تشكل بدورها صورة جديدة تعكس رؤية الشاعر للواقع، موزعة بين واقعية انطباعية، و»يوتوبيا» حلمية، وهاتان الصورتان تتجسدان في دیوان عبدالعزيز المقالح «كتاب صنعاء» الذي ضم ستا وخمسين قصيدة مرقمة من دون عنوانات ليكون أشبه بقصيدة طويلة بمقاطع متعددة، تصف جمال صنعاء الحسي والروحي بلغة شعرية معبرة، إذ يشكل مبدأ الانعكاس الموضوعي مرآة لآلية اشتغال اللغة بكونها الحامل للعلاقة الجدلية بين الشكل والمضمون، فالمضمون يجب أن يتحول إلى شكل، والشكل يجب أن يتحول إلى مضمون على حد قول هيغل، ولما كانت اللغة نظاما اشاریا سيميولوجيا، فإن فعلها يتشكل من خلال العلاقة الجدلية بين اللغة كنظام قائم والواقع الموضوعي، ولا بد لهذه العلاقة من قوة دافعة تنقل الخطاب الشعري إلى دائرة الجمال المؤثرة المتمثلة بالخيال، وفي «كتاب صنعاء» تتجلى قدرة المقالح في اكتشاف عناصر الجمال والتعبير عنه بقوالب تركيبية وصور شعرية مؤثرة، وتوزعت صنعاء في هذا الديوان بين واقع يحاصر الشاعر وخيال تتحول فيه صنعاء الى يوتوبيا، يحلق في فضائها الشاعر ليصور مفاتنها فيقول في القصيدة الخامسة:                                                                              
ترجل 
وضع شفتيك على باب مسجدها 
ويديك على خصر مئذنة 
وتلفت حواليك. ماذا تری
 عالما من شموس ومن شرفات
 وأسماء منقوشة 
وزخارف لا تنتهي 
وعوالم من كتب 
ومحاريب
 لا يدرك النوم أجفانها
 ومساكين أضنى الفراغ مفاصلهم
 جلسوا القرفصاء 
وألقوا براحاتهم في فضاء المكان 
وأصواتهم تشبه الصمت 
أو أنه الصمت يشبه أصواتهم
 أین تأوي. إذا أقبل الليل اعضاؤهم. 
فبلغة ذات طاقة شعرية عالية يصف الشاعر وبلغة ساردة المكان والناس الذين يملؤون فضاء المدينة، يسرد حال شريحة من الناس تصادفك إذا ما تجولت في صنعاء، عند مسجدها وما يمثله للناس وما يفرضه جماله من هيبة على من يراه، وهنا يأتي استعمال الأمر (ترجل) ليجسد صورة الهيبة التي تفرضها المدينة، ويعزز ذلك بتعبيره عن انبهاره بما يحويه المسجد من تشكيلات جمالية تبعث روح البهجة من خلال مفردات «شموس، شرفات، نقوش، زخارف» ويعكس الانزياح في اسناد الأجفان للمحاريب اندماج الشاعر بتفاصيل المدينة، ثم ينتقل لتصوير حال المساكين الذين يجوبون شوارع المدينة وترتسم ملامح الحزن والمعاناة على وجوههم ليصور حالهم في النهار والليل، وليمزج بين الزمان والمكان في صور مؤثرة من خلال شحنها بطاقات دلالية عالية ينتجها الانزياح التركيبي، ويتضح ذلك في اسناد الفعل (أضنى) للفراغ والفعل (تأوي) لأعضائهم واضافة (عيون) للظلام، ويأتي تشبيه أصوات المساكين بالصمت وعکس هذه الصورة من خلال توظيف التضاد ليرسم مشهدا مؤثرا للمدينة وهذا التصوير لصنعاء يتكرر في العديد من القصائد التي ينقل فيها الشاعر المتلقي في جولة يقف فيها عند معالم صنعاء، التي رسمها بريشة الشاعر إذ يقول في القصيدة الثالثة 
عشرة:                                                                                           
هي صنعاء 
لا تعرف الليل
 كانت تنام مبكرة 
والسماء تنادي
 وتجلو مفاتنها فوق صنعاء 
تومض مختالة 
مثل ماء البحار البعيدة
 زرقاء صافية
فصنعاء امرأة جميلة تجلو مفاتنها السماء، وهي حلم رافق الشاعر في مراحل عمره (إليها كما رسمتها مخيلة الطفولة والكهولة) فالمخيلة جعلت صنعاء مدينة حلمية يتطلع إليها محبو الجمال أو امرأة جميلة ومدللة، فيقول في استهلال الديوان:                                                         
كانت امرأة 
هبطت في ثياب 
الندى 
ثم صارت 
مدينة 
فالشاعر يربط جمال صنعاء بجمال المرأة الذي يخلب العقول، ويشكل هذا الاستهلال عتبة تقود المتلقي الى أسرار جمال المدينة، فيقول: 
المدن الجميلة كالنساء الجميلات
 لا يخضعن لحساب الزمن
 ويفصحن عن أعمارهن
 الاثاريون وحدهم يقرؤون أعمار المدن باللمس 
والأطباء وحدهم 
يعرفون من ظلال التجاعيد 
ثمرة الزمن على الوجوه
فصنعاء امرأة جميلة تسكن القلب وتبعث البهجة لذلك لا تفصح عن عمرها، فجمالها الخالد لم تنقصه السنون، ثم انتقل المقالح من الجمال الحسي إلى حيوية الروح لصنعاء في صور شعرية تتحول فيها الى مدينة حلمية يسبح في فضائها ويعيش أجواءها، إذ يقول في القصيدة الرابعة:                 
هي عاصمة الروح 
مغمورة بالضحى والتعاويذ 
تومض أشجار ذاكرتي حين أدخلها
 وأراها بأطمارها تتوهج عارية 
تحت جمرة الظهيرة 
أذكرها. 
كنت طفلا بعينين ذاهلتين 
رأيت مفاتنها
 ...........
 وشاهد قلبي ملائكة يرسمون على الألق
 أودية وقصورا 
وأروقة
  فصنعاء تختلف عن العواصم الأخرى فهي عاصمة الروح، اذ رسمت الملائكة ملامحها (مساجد وأودية وقصور)، اذ تعكس الصورة الشعرية هنا الانبهار والدهشة بهذه المدينة (مغمورة بالضحى والتعاويذ) وتتحول ذاكرة الشاعر الى اشجار تومض وهو يتحسس عريها وقت الظهيرة، ويتجسد جمال صنعاء في ذهول العينين في الذاكرة، والمقالح في هذا الديوان الذي يعد سيرة وصفية لصنعاء يحاول ان يلبسها حلة يبتدعها من خياله لأنه يعشقها.