ما يجري في الرواية .. ما يجري في الواقع

ثقافة وفن
  • 5-02-2019, 05:25
+A -A

ليصلك المزيد من الأخبار اشترك بقناتنا على التليكرام
علي حسن الفواز

الهروب من الواقع يعني سردنة مواجهته،  مثلما يفترض اعادة توصيفه، حيث تتحول لعبة السرد الى مغامرة للكشف عما هو (مقموع ومسكوت عنه) والى فعالية نسقية تقوم على حيل السرد في الرمز والاقنعة وفي الفنطازيا، وعبر تقانات تجسّد فاعلية النص في الخطاب السردي..

غرائبية السرد هي العتبة التوصيفية التي تفيد في قراءة عوالم رواية(مصل الجمال/ اولاد كلب) للروائي عبد الزهرة علي، والصادرة عن دار لارسا للنشر/ بغداد/ 2018

حيث انحنى الروائي على  مقاربة حيوات رمزية، لكنها تعيش كلّ تشوهات الواقع، حيث تنخرط فيه، وتعيش سعاراته، بوصفها ضحيته، أو بوصفها أنموذجه الاستلابي المشوه..

المكان المشوّه العشوائي والشخصية المتحولة هما بنيتا الرواية الرئيسة، بما يخضعان له من نكوص، وخراب، وصراع، إذ يقترح الروائي  لتأطير تلك البنيتين مستويات من القص، وعبر تقانات، لا تكتفي بمقاربة التشوه الداخلي حيث التحوّل المسوخي، بل تجد بالتشوه الخارجي مجالا  للكشف عن تعالق سردية هذا التحوّل بالتشوه العالق بالتاريخ، والخراب، والاستبداد، حيث يتحول الجسد في لعبة مسوخه الى أنموذجٍ للكينونة التائهة، والتي تعيش هوس البحث عن سر خربها، وسر مسوخها، بوصف أن هذا المسوخ السردي للشخصية هو مقابل وضدي وتمثيلي لحضورها في الواقع، وأنّ  البحث عن المصل هو ذلك السر بوصفه شفرة البحث عن  الخلاص، من رهاب التحول المسوخي، ومن صورته في التاريخ السلالي للكلاب التي فرضت سطوتها على الواقع، والتاريخ الايروسي المشوه الذي فرض سطوته وسلطته من خلال الاستبداد..

اسطورة الجد الحكواتي لاينفصل عن اسطورة الواقع ذاته، إذ يتبادلان عبر المبنى السردي لعبة الحكي، ولعبة تمثيل ثيمة التحول، ومن خلال مقاربتهما لسلسلة من الرمزيات السياسية،  والثقافية، ولطبيعة ما تُحيله هذه الرمزيات الى تضخم للمسوخ في صورة الكلب المسعور، وفي تأثيره على (تسعير) الواقع، وعبر ما يشيعه من الفزع والخوف( لمح كتلة سوداء، خلفها تلوح كتلة أخرى. بعد أن توضحت الرؤية له، تبينت له كلاب عدة تسارع الجري الى المزرعة لتأخذ حصتها، تلاحقها حيوانات أخرى شعرت بأن موعد انتقامها قد حان) ص6

 

حكاية الهامش وانشطار الشخصية.

يمكن أنّ نعد هذه الرواية من الروايات التي تؤسس مشغلها على سردنة الهامش، حيث يسعى الروائي للكشف عن وظيفة الشخصية المنشطرة في هذا الهامش، وفي التعبير عما يحدث، وعن أن فعلها السردي هو تمثيل مفارق للخراب، ولكلّ ما تعانيه الشخصية من انشطارٍ واقعي أو رمزي، والتي حاول الروائي أن يحفر في عالمها(المسكوت عنه) وفي يومياتها، وفي سرائر مكانها الهامشي والعشوائي، والذي ينعكس عن(هوية الشخصية) في توصيفها السردي، وفي توصيف تحولها المضطرب والصاخب والمشوّه في الواقع الموغل بالكوابيس، والكآبة والعزل، والخاضع الى استبدادات مرعبة.

فالتحول المسوخي الذي تعيش عصابه هذه الشخصية، هو تحول سياسي واجتماعي ونفسي، مثلما هو تحول رمزي، له افاداته التناصية مع احداث مجاورة، لها دلالات أثرها في التعبير عن الواقع العراقي، وأن ما تقصّده الروائي من اثارة لايعدو أن يكون رغبة في تشبيك شبكة من تلك الدلالات، ومن الافكار التي تتعلق برغبة الروائي في الابانة عنها فضحا للواقع، وكشفا عن طبيعة شخصياته الاضحوية، بوصفها شخصيات مسكونة بكل تشوهات التاريخ والحكايات والاساطير، وشخصيات للواقع ايضا، حيث الرعب والتحوّل والاستبداد والخوف والاقصاء والفقر، وأن التمثيل الكافكوي هو مقاربة تناصية في الدلالة للكشف عن تلك التشوهات، وعن مدى الرعب الذي بدأ يعيشه الانسان في عالم لم يعد آمنا، وأن انشطار الشخصية، وتشظيها في هذا الواقع هو تجلٍ لهذا الرعب الذي تصنعه الكلاب المسعورة، وهي كناية عن القوى الغامضة التي تهيمن على الواقع، وعلى التاريخ والحكايات، وحتى بحثه عن(مصل الجمال) يظل هاجسا، أكثر مما هو فعل حقيقي، فما يجري الواقع من رعب يصيب الشخصيات بالاغتراب، فضلا عن ماتعيشه من انشطار، وهو مايترك لعبة السرد مفتوحة..

 

بؤر سردية

وجد الروائي في تنويع محور الشغل السردي، وفي  جعل الهامش مجالا بؤريا لتغذية مستويات السرد، ولتوسيع فاعلية، وهذا مابدا واضحا من خلال تقانة الميتاسرد، بوصفها تناصا مجاورا، ليس لاسطرة الشخصية، أو للتعبير عن انشاطرها حسب، بل في تتبع تاريخ محنتها، وشخصية الجد الحكواتي وسرائر صندوقه المرصّع بمسامير لامعة، وحكاية اوراقه المدفونة، هي مضاعفة لطاقة السرد من جانب، ولتوالي الحكايات التي تتعدد بتعدد مصادر السرد.

الجد يروي موعظة، والواقع يكشف عن أحداثه، وهذا التعالق بين الروي والكشف هو جوهر تمثيل اللعبة السردية، وتنامي وحداتها، من خلال سرد الحكايات، أو من خلال فنطازيا مسوخ التحوّل، وكأن تلك الموعظة،  هي عتبة للتعرّف على ما سيجري من رعب وفزع، ولتعرية ما مايحدث فيها من خراب، وأن التحول"الكافكوي" الكابوسي هو تمثيل سيميائي لذلك الحدوث،( الكلب الاقرع وهو يتحول الى رجل)ص56

التنويع السردي تعني اساليب تنوع الحكي، وعبر تقانات متعددة، بعضها عبر صوت الراوي العليم، أو عبر ضمائر سردية أخرى، بما فيها صوت الجد الغائب، والحاضر في اوراقه وفي سرائر صندقه، وهذا التوالي السردي، والمفارق، يكسر أفق التوقع، ويعطى للقارئ خيار المشاركة والاستعادة، أو لمشاطرة الروائي في البحث عن لقاح و(مصل الجمال) بعد أن استشرى القبح، وصار سعار الكلاب شرسا، ووجديا في بثّ جيناته الرمزية في اجساد النساء..

وبقطع النظر عن خيار الروائي في سردنة نهاية روايته، فإن لعبة البحث  عن المصل لمواجهة(سلالة الكلاب) وربما لتاريخها يحتاج الى لحظة وعي صادم، والى شخصية ضدية خارج سياق موعظة الجد وحكاياته، وخارج الواقع وسعاره، ولنجد في عتبة العنوان الرئيس تعالقا، ولو ايحائيا مع العنوان الثاني(اولاد كلب)

المصدر: الصباح