وجهٌ إلى السّماء .. نافذةٌ إلى الأرض

ثقافة وفن
  • 2-02-2019, 06:02
+A -A
كتب بول كلي: (اللون يمتلكني إلى الأبد، وأنا أدرك ذلك، أنا واللون متوحّدان. أنا رسّام).
ويقول الشاعر الكلمات تمتلكني الى الأبد، وأنا أدرك ذلك، أنا والكلمات متوحّدان, أنا شاعر, هذا مادوّنه الشاعر عمر السراي في ديوانه (وجهٌ إلى السماء .. نافذةٌ إلى الأرض) الحائز على جائزة الإبداع عام 2016 والصادر عن الاتحاد العام للأدباء والكتاب في العراق عام 2016 والذي ضمَّ 421 صفحة و 189 قصيدة.
الديوان مليءٌ بالقصائد الجميلة والمعبّرة وبمجمله يعدُّ ملحمة شعرية فريدة تجمع بين الروحي والوطني والقومي والإنساني, وسنجد أن الشاعر عمر السراي ومن خلال لغة شعرية متلاحقة يدوّن بشغف ورغبة لا تهدأ وجدانه الشعري، فواصل تضعنا بين الشعر والملحمة المتجهةً إلى الأبدية, فكلنا نتوق الى البدايات، حيث الخلق، النشوء، التكوين الهائل والكثيف في بساطته، الى المعرفة والوصول إذ يبدأ الشعر الذي هو كالزمن مطلق لا تأسره إلّا الكلمات, ففي مفتتح ديوانه سنقرأ قصيدة (الآن أتمُّ صلاتي) والتي هي المحور الأهم والمهم في الديوان الممهورة بجمالية الإبداع والابتكار، وسنشعر بالإشراقات الأولية للحضور حتى قبل أن تدخل في نطاق وعينا, فعندما نقرأ الكلمات وهي تتناسخ وتنسخ الزمن فتستيقظ حواسه فينا بينما قوة الشعر مصحوبة بطاقة غامرة تبلغ ذروتها في تأكيد مطلقه ويمكن اعتبارها البصيرة أو العين الداخلية التي يمكن أن نقرأ القصيدة من خلالها، هنا حيث حضورهم أول الزمان مع الفجر الأول، قبل أن يبدأ الدرب، التدوين، التاريخ، الحضارة، الإنسانية فسار فيهم لكنّه ضلَّ اذ رحلوا, و سنجد أن هذا الحضور الجليل سينمو كطوفان الرغبة للفكرة بالحضور في الكلمات و روحها المليئة بالمعاني الآخذة في التشكّل.
الآن أتمُّ صلاتي
لم يبدأ الدرب .. 
كانوا قبلهُ وصلوا              
 فسار َ فيهم .. وضلَّ الدربَ إذ رحلــوا
هم يحملونَ عصا الأيّام  خـــارطةً           
هم يــُـحمـَـلون ..
 وما عن ظهرهم نزلوا..
 
كما لو أنّ الكلمات تعيدنا الى ذاتنا الأولى, وأننا التقينا بقصد يتخطّى ما يظهر جليا في أثير هذه اللحظة الان في هذه الصور كالصعود نحو الفجر, فجر البدايات وفجر سلالات, نحن القادمون الى الفجر مع القصيدة.
فهذا الدفق الشعوري والامتداد الروحي وما يفترضه الشاعر علينا في قصيدته، يجعلنا نعتقد نحن والكلمات مازلنا في بداية النشوء, التكوين, الملحمة نبحث عن عشبة الخلود التي فقدها كلكامش ماديّا لكن أمسك بها في ملحمته, لذا كان الشعر هو الامتحان الأزلي للكلمات في بحثها الدائم عن الخلود, فهي تبحث عن الحياة الحقيقية, وتضعنا أمام إشكالية الوعي بالوجود وسؤال الكينونة الملح في هذا الوعي.  
وفي قصيدة (أبـــجدية السُّهاد) الشاعر يموسق الفكرة من خلال الكلمات, فيقدم لنا برهانه الشعري الساحر والفاتن ويضعنا في حالة دهشة دائمة و نشوة صوفية ونحن نتتبع نسغ الشعر العميق والذي يسري في جسد القصيدة. 
أبـــجدية السُّهاد
تَمَوْسَقَتْ..
 فاستفاقَ النجمُ حين غفا..
على وسادةِ رمشِ الليل..
والتحفا..
بُسكَّر.. نشر اللبلاب.. بسمتــه زوارقاً من دموعٍ..
قلبها ارتجفـا
وفي المقطع الرابع من قصيدة "حواء" ص304، يذكرنا الشاعر بلوحات إدغار ديغا الرسام الراقص كما يقول بول فاليري
تقفزُ راقصةُ الباليه ..
فوق النغمات ..
تتدحرجُ من فوق الـ ( دو ) ..
تتزحلقُ من أعلى الــ ( ري ) ..
تتلوّى بين المفتاحِ إلى المفتاح ..
والقلبُ فقاعاتٍ من قدّاح ..
يقفزُ من أشعاري نحو النغمات ..
يتركني ..
فأظلُّ أسيرَ الكلمات ..
ستجدنا نتتبع هارموني داخلي ينسجم مع الوحدة الفنية للقصيدة في لحظة الموسيقى الشعرية التي تؤكد حضورها ويقينها يسيطر على كل شيء, فتظن راقصة الباليه أنّها الموسيقى ويظن الشاعر انه المايسترو بعصاه/كلماته يحرك الدهشة بخفة حركة أقدام الراقصة, كما تحاول راقصة البالية الانفلات من الجاذبية الأرضية تحاول في النص الانفلات من الجاذبية الشعرية للكلمات، فالكلمات لم تعد تقيّدها الى المعاني وهذا ما سيثبته ايضا في قصيدة "المنيكان" هذه القصيدة التي ستؤكد ايضا أن التشكيل المذهل هو المدى المتموج بانبهار لرؤية الشاعر التي تطغى على الكلمات, فالشاعر يُزاوج بين الحركة والكلمات والموسيقى وبين الجمال والرشاقة. 
مانيكان
و كانت تدور ..
فيغمزها الضوء ..
وحدكَ كنتَ محاطاً بهنَّ ..
وكانت بهنَّ وحيدة ..
الغيم ساعدها كي تقودَ النوارس نحو انحنائك في غمرةٍ 
لقصيدة ..
وفي قصيدة "قبلة ممطرة" نشعر أن الشعر اصبح بمتناول القلب وكأننا الحلم الذي يتراءى للكلمات وصور أفكارنا تظهر على أثير الضوء الذي يعلن عن نفسه في المعاني يفرغ اللون منا ويصوغه موسيقى للمطر.
هذه القصيدة تعدُّ أقرب الى لوحة انطباعية 
قبلة ممطرة
في الصباح الذي قبــــَّــــلتــــــُـــكِ فيه قرب شرفةٍ ممطرة ..
كنتُ أظنُّ بأنّنا سنطيرُ معا ً ..
كصفحةٍ في قصّةٍ أسطورية ..
و أن الضوءَ سيسلّط كبقعةٍ علينا فقط ..
و أن الموسيقى ستكونُ أكثر نعومةً من خدٍّ يحمرُّ .. في الصباح الذي قبلتــــُـــــكِ فيه قرب شرفةٍ ممطرة ..
 
المصدر:الصباح