عندما يهبط ليل

ثقافة وفن
  • 13-07-2021, 08:22
+A -A

ياسين النصير

لم أقرن الليل بالظلام، بل بالحكاية، فالحكاية شعلة في الليل، لا لتبدد ظلامه، بل لتكشفه بالضوء، ففي كل كيان منا ثمة ليل بحاجة إلى حكاية/ شعلة، وفي كل نهار منا بحاجة إلى موقد ليل كي يستحضر حكايته. كنت أعيش الليل والنهار في قريتي كما لو كانا نصفين لعالم اليوم، أحدهما لليقظة والثاني للنوم، شيئًا فشيئًا بددت الأضواء هذا الفاصل، حين جعلت من الحد بينهما أشبه بخيط يمكن تجاوزه بالرؤية، فقد مكنتنا الحكاية من الرؤية في الليل.

عندما تعيش في مدن ليلها مضاء كله، تشعر أن النهار يختبئ فيها، يتلاشى، ولاقيمة له، مادمت ترى وتسير وتعمل وتنام وتستيقظ وانت تحت خيمة الأضواء، عندما تكون سائحًا أو ساكنًا في مدن كلها ضياء تفتقد ذاكرتك لحساب الساعات والأيام، وتكون بحاجة دائمة لأن تنظر في ساعتك كما لو كنت تنتظر وجوها غائبة، عندما لايكون لك زمنك الخاص لا تشعر أن الليل ليل وأن النهار نهار، بل جريانًا للظلمة في الضوء، وللضوء في الظلمة؛ جريانا يبطئ هنا ويزداد هناك، وأنت ما بين مسارين لا تلتفت إلا لذاتك. ثمة دوران يحيط بك عندما ترى وجهك مضاء . وتسأل متى تولد الحكاية؟ لم يوجه مثل هذا السؤال لشهرزاد يوم قرنت الحكاية بالليل، وحين يطلع الفجر تسكت عن الكلام المباح، فالصباح قد حل. عندما تسأل شهرزاد لِمَ اخترت الليل للحكاية؟، ستقول لك، وبوضوح إن الكلام ضوء، ولايصح أن يقترن ضوءان: نور الشمس ومولد الحكاية، فالكلام يكشف ظلام الروح، كما النور، وانت تعيش في ضوء يكشف ظلام الليل عليك ان تختزن النهار، لذلك لايجوز ان تقترن الحكاية بالضوء، الحكاية مولود لرحم، كل الولادات نشأت في رحم مظلم، في الزمن الرحم، لايجوز أن تتخلق الحكاية في النهار، بل   تعيشها.

عندما يهبط الليل تنهض الذاكرة من سباتها، وعندما تتغلغل في سردها تصطف كلماتها الشموع على الطريق، مضيئة مسارك، ومرشدة لزرعها، وخصوبتها، وتناقضاتها، فالحكاية طريق مبهم، تحتاج لضوء يصطحبها ويكشف تعرجاتها وحشائشها وتربتها وآثارها، ودائمًا تكون الحكاية في الظلمة الروحية قبل ظلمة الطبيعة، فالإنسان جدير بأن يكون مضاء دائما، وعندما تتراكم المشكلات تكون بحاجة إلى الحكاية، حتى لو ابتدأت من نهاية مضيئة، لايصح أن تكون بداية الحكاية في الضوء. لم تكن حكاية تشرين إلا وليدة للظلام، أما الأبناء فهم اللافتة كي يعيشوا في النهار.

يغيب الآباء، تغيب الأمهات، يغيب الأصدقاء، لكن الوطن لايغيب، هذه ليست أحجية أرددها وأنا استشرف حكايتي في ساحة التحرير أو أعيد حكاية ما مررنا به، بل هي حالة الجسد الحي يغيب عندما يشح ضوؤه، بينما لايغيب الوطن حتى لو شح ضوؤه، ليست هذه حكمة فمن يولّد الحكاية هو ليل البلاد، اما روايتها ففي نهار البلاد، ويبقى على الحائك الماهر أن يُضمّن حكايته ليلًا لاينقطع ضياؤه. ونهارًا لا تتوقف لافتاته.

لا تولد الحكاية إلا في الليل، ومن لايجد ليلًا يحكي فيه، عليه أن يخلق ليله الخاص، وإلّا بقي من دون حكاية. لا تأتيه الأصوات المشحونة بالصوت إلا في سكون الليل، أصوات مصحوبة بجوقة المناضلين والشعراء واللافتات المضيئة ومسار الملايين من الاقدام في شوارع المدن، هذه الأرض الخصبة بالاحتمالات هي موطن الحكاية، في النهار كل شيء يتعرى، لا ترى الحشائش إلّا حشائش، والوجوه إلا وجوها، تتخلى الأشياء عن أسمائها في النهار، فالأسماء قرينة الظلمة، ليس لشهريار أو لشهرزاد أسماء في النهار، أسماؤهم مقترنة بالليل، ليل الحكاية المضيء.


ليصلك المزيد من الأخبار اشترك بقناتنا على التليكرام