حرب الحقيقة والأثمان الباهضة... في مواجهة النظام الذي يخلق "حقائقه المحرفة" ويفرضها على الشعوب

تحقيقات وتقارير
  • 12-11-2018, 15:17
+A -A

ليصلك المزيد من الأخبار اشترك بقناتنا على التليكرام
  • انهم يقولون اننا مجرد مرتزقة، نكتب بدفع من جهات خارجية عدوة، لمجرد سعينا لكتابة الحقائق التي يتم تغييبها، تلك التي نعتقد ان ايرادها مهم لبناء مستقبلنا... يقولون اننا أعداء لمجرد أننا نحرص على تنظيف حديقة شعبنا، لو فعل الآخرون ذلك وقاموا بتنظيف حدائقهم فسيكون هناك فرصة اكبر للتعايش السلمي والشراكة بين مكونات هذا البلد!.
  • نحن نواجه النظام الذي يملك كل شيء، اعلام عام وخاص وأجهزة شرطة وتعليم وتوجيه ودعاية وتنظيم، وانت حيالها لا تملك اي شيء غير نزاهتك ومهنيتك ومساحة صغيرة على شبكات التواصل الاجتماعي، فهل تستطيع ان تتغلب على ذلك النظام وعلى أكاذيبه ومبرراته التي نرى جازمين انها تهدد مستقبل أبنائنا؟!.
  •       بتلك العبارات يختصر الكاتب البوسني  Srdjan Puhalo  رؤيته عن "معركة الحقيقة” في البوسنة والهرسك التي شهدت بين 1992 و1995 حربا أهلية بين مكوناتها الرئيسية الثلاثة، الصرب الاثوذكس والكروات الكاثوليك والبوشناق المسلمون، اوقعت أكثر من 100 الف قتيل، ونحو 30 الف ضحية للاعتداءات الجنسية، وخلفت دمارا واسعا وأزمات سياسية واقتصادية معقدة، وأدت الى عمليات تهجير واسعة وتغيير ديموغرافي الى جانب تغييرات مجتمعية كبيرة ماتزال تداعياتها مستمرة بعد 23 عاما من انتهائها. يقول Puhalo وهو طبيب نفسي وناشط له حضور كبير على شبكات التواصل الاجتماعي في البوسنة، وجندي سابق في الجيش الصربي اثناء فترة الحرب، متحدثا عن الحقائق التي يتم تحريفها واخفاؤها من قبل الأنظمة المتعصبة لإدامة وجودها بكل ما يحمله ذلك من مخاطر على تعايش المكونات على الأرض الواحدة:
    • انا لست صحفيا، انا طبيب ولا اعرف الكثير عن الصحافة، فانا لم اتدرب على ذلك، لكني اكتب وباصرار عن القضايا والحقائق التي يحاول الكثيرون اخفاءها والهروب منها، أكتب من اجل اندماج المجتمع البوسني وخلق التعايش الايجابي بين مكوناته.
    • كنت في الثامنة عشر من عمري حين التحقت بالجيش الصربي، كانت الحرب (1992-1995) قد بدأت تلقي بويلاتها على شعوب البوسنة والهرسك مخلفة المآسي والدمار في ظل تعصب قومي متنامي وشعارات متعالية تعمي الكثير من العيون والقلوب والعقول ... وانت في ذلك العمر الفتي تجد نفسك في قلب المعارك الدموية وتشهد كل تلك الصراعات المدمرة وكل تلك الآلام لا يمكن أن يحصل لك شيء ايجابي، ولا يمكن ان تتوقع شيء حسنا لروحك ولمجتمعك.
    • مبكرا خلال احدى المعارك تعرضت للاصابة... عندما تكون في الثامنة عشر من عمرك وتصاب بجروح غائرة، وترى كل ما يحصل امامك من ويلات، وكيف ان حياة عشرات الآلاف من العوائل تتحطم وتنهار أمنياتها، لا يمكن ان تعيش بقية أيامك بسلام وتفاؤل وبروح ايجابية محبة.
    • ذلك الوضع المأساوي، يوضح كيف علينا رفض الأفكار المثالية عن الحروب، تلك الأفكار والأقوال والشعارات البطولية التي يتم ترديدها عن الحروب بعد عشر سنوات على انتهائها.
    • بعد سنوات من انتهاء الحرب، يبدو المشهد جليا أنهم صنعوا الحرب، وأن رجال السياسة كانوا يخلقون الحقائق التي تناسبهم ويفرضونها على الشعوب، فالحقائق المجردة والقيمة الفعلية للوقائع لم تكن مهمة، بل المهم هو ما كانوا يصنعونه من حقائق ويفرضونها على الناس خدمة لمصالحهم.
    • لذلك نجد اليوم في هذه البلاد الصغيرة الجميلة، ثلاث حقائق عن الحرب التي حصلت، وهي حقائق متوازية لا تلتقي ولا ترتبط في اي نقطة، ومادامت العلاقة الترابطية غائبة بين الحقائق الثلاث المعلنة والتي تتردد في الشوارع والمدارس العائدة لكل مكون في البوسنة، فان الأمر يبدو كصراع بين المكونات، ومعها الحياة تتحول الى صراع وليس علاقات اجتماعية بناءة.
    • ما يحدث اننا نتجاهل الضحايا من الأطراف الاخرى، ونركز على ضحايانا فقط. لا نعترف لا رسميا ولا مجتمعيا بضحايا الآخرين وآلامهم، ولا نريد مجابهة الحقائق حتى تلك التي يمكن ان تهدد مجددا حياتنا ومستقبلنا.
    • هناك اليوم حديث عن مقبرة جماعية في المكسيك، لكن لا اخبار عن المقابر الجماعية في البوسنة، فالحديث عنها غير مسموح بحجة عدم اثارة جراحات وصراعات الماضي وان كان قريبا وتداعياته تلقي بظلالها على كل شيء... السبب ان الأحزاب والكيانات السياسية لا ترى ان من المناسب الحديث في هذا الأمر... انها تفعل ذلك خدمة لمصالحها.
      الاصلاحات الغائبة
    • النظام السياسي في البوسنة صنع مناخاً لا يسمح بالحديث عن الجرائم التي وقعت وأسبابها ومن يتحمل مسؤوليتها، وهذه ليست مشكلة خاصة بالبوسنة فكل المجتمعات التي تعيش حروبا تواجه ذات المشاكل، ففي المانيا لم يتحدثوا عن العنصرية والحرب وفواجعها الا بعد أكثر من عشر سنوات، وبتشجيع من المجتمع الدولي ومن الولايات المتحدة الأمريكية وهو ما دفع لاجراء اصلاحات عميقة في التعليم والصحافة وادارة المجتمع والدولة من اجل كشف الحقائق. وبدأت الأمور مع اعتراف رئيس المانيا الغربية بارتكاب تلك الفضائع والاعتراف بها.
    • أنا اكتب عن الأمور التي ليست لها جماهيرية في صربيا، فانا اكتب عن جرائم الجنود الصرب والفضائع التي حصلت، في حين وسائل الاعلام لا تتحدث عن ذلك والسلطات تلتزم الصمت وتشجع على استمرار تلك الحالة من عدم الاعتراف بالحقائق... الحكومات تمنع الى الآن الحديث عن جرائم الحرب وبعد 22 عاما من انتهائها مازال المجتمع لا يعترف بالوقائع ولا يتحدث بشكل صحيح عن الجرائم التي حدثت وعن أسبابها والأفكار التي ادت اليها وعن المسؤولين عنها من غير القادة.
    • نعم هناك من يكتب عن تلك الجرائم وانا بينهم، لكن السؤال هل نملك التأثير على المجتمع؟ وهل الحقائق التي نوردها قادرة على الاقناع والتأثير وتغيير رؤية الناس تجاه ما حدث في الماضي وما يمكن ان يحدث مستقبلاً؟... اعتقد انني لست مؤثرا خاصة في الجمهور الصربي... والسلطات لا تسمح لنا أن نكون مؤثرين، لا يقدمون مساحة لنا في وسائل الاعلام من اجل ابداء رأينا، بل هي تبذل جهودا من اجل محاربتنا وتهميشنا وتشويه مصداقيتنا والتشكيك بكل ما نذكره.
    • ليكون الأمر واضحا، أنا لست شغوفا بالتحدث عن جرائم شعبي، بل حريص على تنظيف حديقة شعبي... أنا هنا من اجل تنظيف حديقتنا، واذا فعل الآخرون ذلك فسيكون هناك فرصة اكبر للتعايش السلمي والشراكة بين مكونات هذا البلد.
        هل نستطيع تغيير النظام؟
    • قبل سنوات كنت نجما في صربيا، اتواجد بكثرة في وسائل الاعلام، كنت يومها فقط أرد على الاسئلة التي تطرح علي وليس الاسئلة الاخرى التي لا يتم طرحها عن الحرب وعن نظامنا السياسي وأحزابنا المتعصبة وأخطائها، وحين ظهرت شبكات التواصل الاجتماعي بدأت اكتب واجيب على الأسئلة التي لم تطرح علي... بدأت اطرح اسئلتي التي كانوا يرفضون الاشارة اليها والخوض فيها ولا يريدون من احد الاجابة عليها، رغم كونها الأسئلة الأساسية... كنت اتكلم عن الجرائم التي ارتكبها قومي وشعبي وعن سبب وقوعها والمسؤول عنها وعن الويلات التي نتجت عنها.... كنت اتساءل هل هؤلاء هم ابطال قوميون فعلا ام هم مجرمون ليس بحق الآخرين بل بحق مجتمعهم، مجرمون يستحقون العقاب..... أنا كنت اقول ببساطة ان على كل شعب ان ينظف حديقته، وعندما بدأت الحديث عن جرائم قومي بدأوا يرفضون كلامي ويهاجمونني لأن كلامي لم يعجبهم!.
    • هم لم يسألوا: هل ما اقدمه من معلومات صحيح أم غير صحيح، هل هي حقائق ووقائع حصلت ويجب ايرادها والتذكير بها وبالمسؤولين عنها لمنع تكرارها، فتلك الوقائع تسببت بتدمير متجمعاتنا... لكنهم فقط كانوا يرددون ان علينا عدم اثارة هذه المواضيع الحساسة، ويهربون من حقيقة ان اعادة بناء السلم والتعايش والدولة تبدأ بالاعتراف بالأخطاء وليس بمحاولة اخفائها بحجة نسيانها... بالنسبة لهم مازال طرح هكذا أمور أمرا ممنوعا، وهو لا يتعلق بجوهر: هل هذه الأفكار خلاقة؟ وهل أنا اقول الحقيقة واعرضها عبر معلومات موثقة؟.
    • انا فعلا مهمش الآن، ولكن بفضل شبكات التواصل لدي جماهيرية كبيرة وهذا يزعج الكثيرين خاصة الصحفيين في جمهورية الصرب... لكن ان تكون لديك جماهيرية، هل هذا يعني انك قادر على التأثير؟!
    • لو كنت استاذا جامعيا او مسؤولا في موقع ما بالدولة كان تأثيري سيكون أكبر... لكنهم لن يسمحوا لي بالعمل في تلك المواقع... حين كنت اكتب عن الجرائم قالوا انني اتلقى تمويلا من مؤسسات دولية لفعل ذلك، كنت اجيبهم انني اعمل في شركة خاصة وليس في منظمات.. كنت أقول لهم ردوا على الحقائق والوقائع التي اوردها... لكنهم فضلوا اتهامي بعداء شعبي وبالخيانة.. بقيت اذكرهم انني كنت جنديا في الجيش الصربي وجرحت خلال الحرب واعرف الكثير مما كان يحصل، لكنهم يردون انني شخص يكره شعبه ويخونه.
    • الحكومة تقول اننا مجرد مرتزقة، نكتب بدفع من جهات خارجية، ولا نفكر من رؤوسنا بل بدفع من الأعداء ومن الآخرين!.... اذا كان هذا هو ما يروج علينا، فهل الجمهور من الممكن ان يصدقنا؟!... نحن نواجه النظام الذي يملك كل شيء اعلام عام وخاص موجه وجهاز شرطة وجهاز تعليم وأجهزة تنظيم ودعاية حزبية ومؤسسات ادارة، وانت حيالها لا تملك اي شيء غير شبكات التواصل الاجتماعي.
    • السؤال الذي لا نملك اجابة عنه: هل نستطيع ان نتغلب على ذلك النظام، وعلى أكاذيبه ومبرراته، التي نعتقد انها تهدد مستقبل أبنائنا، ام ان الامر غير ممكن، وان انتصارنا الوحيد هو في البقاء أحياء والاستمرار في الكتابة غير المجدية او غير المؤثرة!.
      جدار الحقيقة
    • اتساءل كثيرا: هل ارتكبت خطأً عندما بدأت الكتابة عن جرائم قومي، وكان علي ان اضع استراتيجية اخرى في وسائل الاعلام، واتحدث بطرق أخرى مختلفة ومغايرة عن ما حصل؟.. بسلوكي ذاك هل اصبحت متطرفا؟ وهل هناك اي اثر لما اكتبه في تفكير ونفسية الجمهور الصربي؟.
    • بعد 23 عاما من الحرب، رجال السياسة من كل الأطراف الرئيسية يركزون على جرائم الآخرين وليس جرائمهم... شباب البوسنة لديهم معلومات قليلة عن الحرب وجزء بسيط منها يتسم بالدقة والموضوعية، لأن النخب السياسية تمنع المعلومات وايراد الحقائق ولا تحبذ نشرها لأنها ترى ان ذلك لا يخدم مصالحها.
    • هنا في فيدرالية البوسنة والهرسك عندما تسأل الشباب: هل ترغبون أن نتحدث عن جرائم الصرب، فيقولون نعم يجب ان نتحدث عنها! وعندما نقول هل تريدون الحديث عن جرائم البوسنيين، يقولون لا يجب الحديث عن المستقبل!. وهكذا مع الأطراف الأخرى، حين تتحدث عن جرائمه يقول ان علينا ان لا ننكأ جراح الماضي وننظر الى المستقبل.
    • ابنتي في المدرسة والشارع تقرأ وتطلع على المعلومات المتعلقة بجرائم الآخرين ضد الصرب، بما فيها تلك التي وقعت في عامي 1943 و1944 خلال الحرب العالمية الثانية، وكذلك الجرائم التي ارتكبت خلال حرب البوسنة، لكن هي لا تملك معلومات عن الجرائم التي ارتكبها الصرب في الكثير من المناطق. واذا حصلت على تلك المعلومات فان مصدرها سيكون غربي او بوسني (بوشناقي)، وبالتالي سيقال انها معلومات محرفة وغير صحيحة ومعادية.
    • قبل فترة انجزت تحليلا عن تغطيات وسائل الاعلام بشأن بناء جامع تاريخي في صربيا بني قبل 400 عام، فلم اجد في تلك الوسائل اية معلومات عن الجامع، كان مجرد خبر عن وضع حجر الأساس للجامع، تم اخفاء بقية المعلومات المتعلقة بالجامع وبحقيقة انه تعرض للتدمير على يد الصرب خلال الحرب... وحين تسأل عن السبب يقال انك تطرح اسئلة غير مناسبة!... الأمر لا يتعلق بجامع تاريخي يعاد بناؤه فقط، بل بآلاف المساجد التي دمرت في الحرب! وحين تسأل عن من دمرها فانك تواجه حاجز الصمت ويرفضون الحوار معك؟!.
    • عند اولئك الذين يمسكون بزمام الامور وتدفعهم عنصريتهم وتعصبهم وسلطتهم، ليس ما يقال هو المهم، ولا ما يتم عرضه من حقائق دقيقة وموثقة، بل "من القائل؟ وما هو المصدر؟".. فالحقائق غير مهمة مهما كان الثمن الذي على المجتمع ان يدفعه جراء ذلك.
      في مواجهة التعصب
    • من الصعب عليك ان تعيش في بيئة متعصبة تعتبرك معاديا بل وخائنا تفضح شعبك.. من الصعب ان تعيش في بيئة تعتبرك عدوا وليس انسانا نزيها مهنيا محبا للجميع يريد قول الحقيقة من اجل مستقبل أفضل لشعبه، لكني اجد ان الأصعب يكمن في أن أكذب على نفسي وعلى شعبي لأعيش في آمان مالي.
    • انها مشكلة تواجه كل كتاب وصحفيي البوسنة المهنيين: هل أنت مستعد للمضي في الاتجاه المعاكس ومواجهة كل السياسات القوية في النظام السائد...هي ليست مسألة مرتبطة بالمهنية الصحفية فقط بل ايضا بالشجاعة والتضحية ... هل انت على استعداد ان تخسر كل الوظائف والمناصب والمرتبات التي تستحقها لمجرد قول الحقيقة؟.. بل هل انت مستعد لمواجهة تحديات تهدد عائلتك؟
    • انا طبيب، لست صحفيا ولا كاتبا متمرسا، وبرأيي ليس مهما ان تكون مجازا في العمل الصحفي ولا ان تملك تدريبا واسعا في الصحافة والكتابة، بل ان تكتب بضمير حي وتكتب بعقلك وقلبك الحقيقيين، وليس ما يريدونه ويفرضونه عليك؟.. يجب ان لا تكون موظفا لديهم يملون عليك ما يجب ان تقوله وما لا يجب!
    • في النهاية عليك ان تقرر: هل تصبح صحفيا جيدا بكل ما يمكن ان تدفعه من أثمان، أم تكون صحفيا سيئا وتقضي حياتك وانت تبرر استمرارك في تحريف الحقيقة للأنظمة والقادة والشركات.... للأسف قلة هم من يختارون الطريق الأول.
    المادة، هي جزء من مخرجات الورشة التي نظمتها، منظمة دعم الاعلام الحر (ims) بالتنسيق مع رابطة صحفيي البوسنة والهرسك، في العاصمة البوسنية سراييفو في حزيران 2018، لاعلاميين ونشطاء عراقيين وسوريين، والتي تركزت على دروس الحرب الأهلية في البوسنة (1992-1995) والمرحلة الانتقالية، ودور الاعلام خلال فترتي الحرب واعادة بناء السلام.