ذاكرة الكهوف تمظهر للطبيعة

ثقافة وفن
  • 8-06-2021, 07:51
+A -A

ناجح المعموري

 كان الفن أولى الوسائل التي اعتمد عليها الإنسان البكري في تعامله مع الحياة والتصّدي للطبيعة وظواهرها وتمظهراتها الكثيرة. واعتمد هذا الإنسان على الطاقة السحرية التي شحن بها رسوماته الأولى في الكهوف وتخطيطاته التي أبرزت قوة المجهول ومقاومته بواسطة الروح والسحر الذي استعان به لصد كل القوى التي أثارت مخاوفه وجعلته متوجساً، حذراً، كثيراً ما يتخذ من الكهوف والمغاور رحماً له للاحتماء بها من الخوف الخارجي، لأن الإنسان البدئي ما كان يطمئن إلا في أعماق الكهوف التي ترك على جدرانها رسوماً هي وثائقه ومعلوماته الثقافية والسحرية التي وفرت له الحماية والأمان.

وتنوع الظواهر الطبيعية.

لذا كان احتماء الإنسان تعبيراً عن خوفه من الخارج وكان الرجل هو المكتشف للمحيط والمخترق للطبيعة بقوته السحرية التي كانت بالنسبة إليه قوة سارية غير معطلة، بل هي مستمرة في تناميها وقدرتها على تحقيق ما كان الإنسان بحاجة إليه.

وسعى الإنسان الأول إلى تجسيد رؤاه في المحيط ورسم الحيوانات الشرسة على جدران الكهوف حتى يعطل وحشيتها عبر التعايش السحري معها، لقد تعايش الإنسان مع ثور البيبسون مثلاً، وهو الأكثر وجوداً على جدران الكهوف، وتمركز هذا الحيوان لا يعني قبولاً به أو محاولة لعقد مشترك، وإنما سبب اهتمامه به، هو الإبقاء على المحيط الخارجي حاضراً في كهفه الأمن، والتعايش المستمر مع هذا الحيوان وغيره من الحيوانات خلقت وضعاً جديداً، تكرس فيه السحر وتمركز في علاقات الإنسان مع محيطه الداخلي والخارجي وحازت هذه الكهوف على خاصية فيها قداسة واضحة، ومنذ تلك اللحظة المبكرة في التاريخ الإنساني نشأت فكرة المكان المقدس وشيئاً فشيئاً تكرست فكرة الدين والمكان.

أقام فيها الإنسان العاقل نقاط تواصل مع المجال الآخر، من خلال هيئات حيوانية تلخصت بشكل رئيس في الثور والبيبسون والحصان

إن الجو فوق – الطبيعاني الذي يملأ الكهوف بالرسوم الجدارية والذي مازلنا إلى اليوم نستشعر حضوره، قد خلقه إحساس الإنسان الباليوتي الصافي بعالم اللاهوت، بذلك المجال القدسي الذي ينبت في الطبيعة الناسونية، مثلما تنطلق هذه الحيوانات الحرة معبرة عن قدرة طاغية لا حدود لها/ فراس السواح/ دين الإنسان/ بحث في ماهية الدين ومنشأ الدافع الديني/ دار علاء الدين/ دمشق/ 1994 / ص150.

ارتبط الكهف بذهن الإنسان بوصفه حامياً وحضناً أمومياً، أو هو الأم القادرة على حضن الجميع وحمايتهم، وارتبط الكهف بعد تطور وتعمق طاقته الروحية المقدسة ليتحول مكاناً للتوثيق من خلال الرسم والألوان التي وجدت وسط الكهوف، ويرى الأستاذ فراس السواح بأن الكهوف حافظت على علاقتها بالإنسان بعد التطور الكبير الحاصل، لأنها -الكهوف- حافظت على قدرتها في جذب الإنسان نحو الرسم والمحيط الداخلي.

وتحولت باستمرار إلى علاقة مصيرية ومنها تكرست أماكن مقدسة.

حافظت على هذه الخاصية واقترنت مع الدين في المراحل الحضارية المتأخرة، حتى الديانات التوحيدية ارتبطت بالمرتفعات والكهوف وشواهد الديانات قبل التوحيدية كثيرة

والدين وحده أضفى القداسة على المكان المرتفع أو الكهف.

إن المجال المعتقدي والطقوسي هو اللحظة الأولى التي أسست ثنائية مع المكان المقدس الذي قاد إلى نوع من الممارسات والشعائر السحرية أفضت لاحقاً نحو الدين.  

الحديث عن الفن وعلاقته بالدين، يفرض علينا المرور بالكهوف، اللحظة الأولى في تاريخ الفن في المفاهيم المعاصرة، مثلما تعني عتبات التفكير الجمالي، حيث تعامل مع التاريخ المعاصر بوصفها موجودات دالة بصدق على ما يشير لمتروكات الإنسان العاقل.

وقد أقام القس آبي برويل وهو أهم دارس لرسوم الكهوف، التي تبدو لأول وهلة وكأنها رسمت عبر فترة زمنية واحدة، وجد برويل أن أقدم الصور مرسوم باللون الأسود، يليها زمنياً اللون الأحمر، فالرسوم من الألوان الثلاثة وهي الأحمر والأسود والأصفر.

كما لاحظ أن بعض الرسوم قد خضع للترميم والتجديد على مدى عشرات القرون المتوالية التي بقيت خلالها هذه الكهوف مهوى أفئدة الإنسان الباليوت الأعلى ((نفس المصدر/ ص140)).

تعدد الكهوف وكثرتها والتماثل الموجود بينها في الرسوم والتشابه وكأنها خاضعة لوظيفة واحدة، ينطوي على قبول للمحيط السري لا تعرفه إلا الجماعة الخاصة به، واقترنت معه وتحول بديلاً للرحم وهو الأم الغائبة وحضورها رمزي مستمر، الأم هي التي وفرت فرصاً واسعة للجماعات المرتبطة بالكهف بوصفه حبلاً سرياً أو مركزاً للكون ولن تستطيع الجماعات عزلة عنه، لذا أكدت ارتباطها معه عبر وثائق فنية كثيرة جداً، والدارس الفني هو القادر على كشف مكوناتها ومهارة الوظائفيات اللونية المحدودة وتأثير هذه الرسوم على حركة الفن التشكيلي في العالم.

أنا أريد تسجيل أنثروبولوجيا الكهف.

ويبدو بأن وجود الكهوف متجاورة كسلسلة يعني وجود مشتركات أو ما يشبه الاتفاق بين الجماعات البشرية، ودليل على ذلك التماثل في بعض الرسوم كما أشارت الدراسات الخاصة بالفن الأول ورسوم الكهوف فإن ما تم التوصل إليه من وظائف خاصة لم يكن فنياً وجمالياً، بل هو سحري كما قلنا ولها دور صبياني.

وتعامل لوردا غورهان مع رسوم الكهوف الكانتربرية بوصفها وحدة متكاملة، لا نستطيع دراسة أو تفسير رسم مفرد منها من دون بقية الرسوم وفي علاقتها معها سواء في الكهف الواحد أم في بقية الكهوف مجتمعة. كانت الرسوم أداة سحرية، وهذا ما توصل له آبي برويل، وهو أول دارس جدي لرسوم الكهوف وأشهر الاختصاصيين فيها، وتنطوي على الترويج لأفكار المدرسة السحرية المتمركزة كلياً في كل الدراسات والبحوث.

إذ برز عدد كبير من الباحثين في ثقافات ما قبل التاريخ وفي تاريخ الأديان خاصة، كانوا –كما قال الأستاذ فراس السواح– يسوقون التفسير السحري وكأنه بديهة لا تتطلب تمحيصاً أو مناقشة وقال العالم جوزيف كامبل:

يبدو عدد من الحيوانات وقد غرست سهام في مجنباته وآخر قد ظهرت على جسده جروح مفتوحة من أثر الحراب

وهنا لا يسع المرء إلا أن يقارن مع ممارسات السحر الأسود الذي يستعين بصورة من الشمع للشخص المطلوب إيذاؤه، فيكتب على الصورة اسمه ثم توخز الصورة بالإبر أو تترك لتذوب على النار

وبلغ اليقين السحري بالرسوم بالنسبة إلى آرنولد هاوزر حداً متطرفاً قابلاً لكل توصلات تايلور الرائد الأنثروبولوجي المعروف: إن جميع الدلائل تشير إلى أنه كان أداة لأسلوب سحري وكانت له بهذا الوصف وظيفة عملية بحتة، تستهدف أغراضاً اقتصادية مباشرة فحسب

ويبدو أنه لم يكن هناك أي عنصر مشترك بين هذا الفن وما نسميه اليوم بالدين. فلم يكن الإنسان وقتذاك يعرف الصلوات

ولم يكن يعبد قوى مقدسة ولم يكن هناك أي نوع من الإيمان يربطه بوجوديات روحية تنتمي إلى عالم آخر، ومن ثم فقد كان يفتقر إلى ما وصف بأنه الحد الأدنى من الشروط اللازمة لقيام دين بالمعنى الصحيح.. إن الصورة كانت هي التصوير والشيء المصور في آن واحد، وكذلك كانت الرغبة وتحقيق الرغبة في الوقت نفسه / المصدر نفسه / 144.

ينطوي هذا الرأي على تطرف في الإلغاء بين رسوم الكهوف والدين، ليس بمفهومه المعاصر.

الدين بوصفه اتفاقاً بين الجماعة حول معتقد أو علاقات مشتركة أم علاقات أكثر سعة بين الجماعات المتنوعة داخل الكهوف، مغادرة الرجال صباحاً وعودتهم مساءً كنمط حياتي لجمع القوت وصيد الحيوانات التي رسمها أو جعل لها حيوانا آخر هو رمزه الدال عليه، هذه كلها وأكثر بساطة منها هي منوعات معتقدية وقناعية لدى الإنسان الأول، وهي شكل من أشكال الدين الذي يعني في الأنثروبولوجيا هو ما تتفق حوله الجماعة وتستمر بقبولها به عبر التداول

وليس شرطاً أن تكون الصلوات اللاحقة في مراحل تطور بشري متأخر، بينما عرف الإنسان الأول كثيراً من الطقوس والممارسات كانت وظلت جزءاً من الدين، العلاقة بين الألوان وإضفاء صفات معينة على لون مثل الأحمر أو الأخضر والأزرق، وهذه الثقافة والموسيقى الأولية هي مكونات تحتانية للدين، وهي الشيئية التي كانت وما زالت قاعدة للعمل الفني ووظائفه.

فالشيء حاضر في الكهوف وله شيئية ظاهرة، ومازال الإنسان منشغلاً بها.


ليصلك المزيد من الأخبار اشترك بقناتنا على التليكرام