حسن العاني.. غيابٌ موجع

مقالات
  • 18-01-2024, 08:26
+A -A

نرمين المفتي

ليصلك المزيد من الأخبار اشترك بقناتنا على التليكرام
لم يكن التسمم الذي أدخل حسن العاني المستشفى قبل شهرين تقريبا سببا لرحيله المفجع.
فقد مر بحالات مرضية كثيرة، ودائما كان شغفه بالحياة وحبه لعائلته وأصدقائه وبغداد والعراق، يمنحه طاقة للحياة والاستمرار بها.. الآن أتذكر حين تعالج بأدوية كيمياوية بسبب الغدة الدرقية قبل ربع قرن أو اكثر، وكان عليه أن يبقى في غرفة منعزلة في بيته لمدة يوم أو اكثر كلما يأخذ جرعة من ذلك الدواء، وكيف دفعه شغفه بالحياة إلى تحويل تلك الأيام  إلى مقالات وقصص وتحقيقات صحفية.
وأتذكر الآن كيف تمكن بمساعدة أصدقاء وصديقات من الالتفاف حول قرار منعه من الكتابة مدى الحياة، والذي صدر ضده في تسعينيات القرن الماضي، مرة اخرى ساعده شغفه بالحياة من
الاستمرار.
ولأنني وأصدقاء معدودين نعرفه جيدا، نستطيع أن نقول انه لم يعد شغوفا بالحياة ولاسباب كثيرة. كان يشعر بخذلان كبير من صحفيين اهتم بهم كثيرا وساعدهم ووقف إلى جانبهم في بداياتهم، ومن ثم حين اصبحوا ما صاروا عليه، خذلوه، ولهذا الخذلان قصص قد أرويها في مقال آخر، لا أعرف وقته، لكن قطعا هؤلاء نعوه أو سينعونه، وكأنهم لم يجرحوه وكل واحد منهم قد يقول بأنه لم يكن يقصد.
حسن العاني المعلم الذي واجه الحياة بقصص قصيرة وروايات، وصار أفضل من يكتب التحقيق الصحفي وافضل كاتب مقال ساخر، على مدى عقود طويلة، كان الوضع العراقي يؤلمه وكان يحول هذا الألم إلى مقال ساخر، هناك من يعرف أن هذه الكوميديا السوداء، تحاول ان ترشده إلى حقيقة يواجهها بخطوة إن قدر عليها.. حتى حين منع من النشر في الصحف، نسى ما نعوه انه روائي وكاتب قصة وكان  محظوظا اذ كان الرقيب الذي سيقرأ روايته قبل الطبع، هو صديق عمره الاستاذ باسم عبد الحميد حمودي الذي نصحه بعدم نشرها في حينه، لان هناك من سيفهم قصده من عنوان روايته (الولد الغبي)، لكنه استمر يكتب قصصا قصيرة ويجمعها وهناك من ساعده بأن ينشر مواده  الصحفية باسمه ويستلم الأجور ويعطيها له. كان الراحل امير الحلو، حينها رئيس تحرير مجلة الف باء، ووافق على هذه الخطوة، فالأجور التي كان يستلمها حينها وفي ما بعد تساعده مع راتبه التقاعدي كمعلم في ادارة الحياة، واعتذر عن نشر بدون استئذان اسم الصديق الشاعر الذي استمر حسن ينشر  باسمه في كل الصحف، التي كان يكتب بها، وواجه بدوره بعض المصاعب حين قالوا له بأن المواد المنشورة باسمه كأنها لحسن العاني، الذي كان أسلوبه الساخر معروفا ومميزا. بدأ يفقد شغفه بالحياة، وهو يشاهد ما يجري في البلد وكأن مانديلا قال مقولته (ليس حرا من يهان امامه إنسان ولا يشعر باهانة)، كان حسن يشعر ليس باهانة الانسان فقط، بل باهانة المبادئ والقيم وطالما كتب عن الفساد وندد بالطائفية والمحاصصة وباسلوبه الساخر نفسه، لكننا نعرف جيدا أن من يحمل هذه الطاقة الكبيرة للسخرية، يحمل وجعا لا يقدر عليه جبل، ووجهاً سيطفئ شغفه بالحياة.
توجعني الكتابة عن حسن العاني بجملة ابدأها بـ(كان)، ومرغمة استخدم هذا الفعل الماضي وأقول كان حسن، بعيدا عن تميزه كصحفي وكاتب ساخر وقاص وروائي، زميلا وصديقا نبيلا، لم يغير جلده ووجهه، وقطعا لا يوجد من عمل معه في مختلف المجلات والصحف على مدى عقود، إن سمع منه كلمة تجرحه أو تزعله.. كان نبيلا حتى في رحيله المفاجئ والموجع، اذ لم يبلّغ الكثيرين ممن يعرفونه بتعبه كي
لا يقلقهم.
كنت قد وعدته بأن اكتب عنه يوما، فهو كتب عني العديد من المقالات، ولم أكن ادري بأنني سأكتب رثاء
له.
منذ عقود، لا يوجد عمل اسهل في العراق من تحويل إنسان كان نابضا بالحياة إلى لافتة سوداء تعلق على سور بيته تنعيه، وتشير إلى مكان الفاتحة التي ستقام على روحه.. وسلاما حسن العاني الذي بدأ رحلته الأبدية إلى دنيا باقية لن يجرحه أو يخذله فيها احدهم. وكأنني سأرى ابتسامته التي كان يداري بها خجله من أية كلمة مدح أو حب، وهو يقرأ ما كتبته وهذه المرة ليداري خجله من الوجع الذي تسبب به
 رحيله.