الكتابة.. واقعاً إنسانيَّاً

مقالات
  • 24-04-2022, 08:05
+A -A

حسب الله يحيى 
بعد أن كتب رباعيته الفذة (بحر الخصوبة) توقف الكاتب الياباني يوكيو ميشيما عن الكتابة، مع أنه كان قد نال عن هذه الرباعية جائزة نوبل العالمية.

ليصلك المزيد من الأخبار اشترك بقناتنا على التليكرام
ميشيما.. قال إنه لم يعد بوسعه كتابة أفضل من (بحر الخصوبة) هذه، وإذا ما كتب فإنّه سيكتب ما هو أقل منها شأنا، لذلك اختار إنهاء حياته وانتحر، ليبقي على مجد روايته الخالدة تلك.
 
في حين نجد ماركيز فاز بجائرة نوبل عن روايته (مئة عام من العزلة) وكتب بعدها سلسلة من الروايات المعمقة التي لا تقل شأنا عن (مئة عام من العزلة).
لكنه عندما نفد خزينه الإبداعي، أصر على الكتابة فكانت روايته (خبر اختطاف) من أسوأ ما كتبه، بوصفها لا تخرج عن إطار الريبورتاج الصحفي المطوّل والمفصّل الإنشائي، فكانت بمثابة الانتحار في سلم عطائه الروائي. الحال نفسه، منظور ومكرر في حياتنا الثقافية والإبداعية.
فإذا تفوّق كاتب في منجز ما، ولقي صداه الحسن، توجه الى مزيد من الكتابة الاستهلاكية التي لا ترقى الى مصاف الكتابات السابقة وذلك في حسبانه، أن من يقدم عملا ناجحا، لا بد من أن تكون أعماله اللاحقة دائمة الحضور والتفوق.. وهذا أمر غير مقبول على صعيد الواقع النقدي الكاشف عن مستويات الكاتب 
والكتابة.
وهنا لا ندعو إلى انتحار الكاتب بعد منجزه الناجح كما فعل ميشما بشكل متطرّف وسوداوي ويائس، وإنّما ندعو الى التأني والتريث، والتعامل مع عطائه من منطلق النقد والنقد الذاتي، قبل أن يجد الصدى السلبي، ومن ثم يعد هذا الصدى عدوانيا ومغرضا ومجافيا 
للواقع. إنَّ تجربة ماركيز تجربة مرة، لا يراد لها أن تتكرر في استمرارية الكتابة الاستهلاكية، اعتقادا من الذات المغامرة والكبرياء الخشن، أن كل ما يكتبه مؤلف ما، جيد ولا بدَّ أن يكون متجاوزا لما بعده، فالنجاح والتوفيق الذي حصل، سوف يحصل ويتكرر دائما... وهذا فهم خاطئ، ذلك أننا لا نكرر أنفسنا إبداعيا وثقافيا، بوصف كل واحد منا، عرضة للتغيير إيجابا وسلبا، في هذا الجانب أو ذلك، ذلك أننا عرضة للتفاعل مع الزمان والمكان، ومع الثقافات الأخرى، والأشخاص ومتغيرات سبل العيش أسريا 
واجتماعيا..
الواحد منا، لا يمكن أن يكون حجارة، أو ثابتا من دون متغيرات طوال العمر، بل إن كل الحياة وكل الناس لا يسبحون في ذات الماء مرتين ـ كما يقال ـ فالمياه تتغير، ونحن متغيرون مع تغيرات هذا الماء.
من هذا المنطلق، نرى أن يتوقف المرء ـ مبدعا ومثقفا ومنتجا للثقافة وقارئا وإنسانا عاديا ـ أمام نفسه وما يمكن أن يقدمه في اللاحق من أيامه.. فما كان مقبولا ومتفوقا، قد لا يكون مقبولا وربما مرفوضا من جيل لاحق.
 إنَّ الإنسان ـ وعلى وجه الخصوص شغيلة المعرفة ـ لا بد أن يدركوا أن ما أحسنوا اتقانه.. قد لا يتكرر، بل قد يكون أردأ، وقد لا يحسن صاحبه استعمال أدواته التي أتقنها من قبل.. ذلك أن لجملة المتغيرات المحيطة تأثيرا، كما أن العمر الزمني لكل إنسان متغيرات شتى، قد تكون أكثر خصبا، وقد تكون جدبا من أي خضرة دالة على البقاء والتطور والتجاوز.
الكتابة.. ضوء العقل، والعقل قد يكون منتجا ومضيئا، وقد يخفق ويعجز.. هذا ما ينبغي أن ندركه جيدا.