مارتن هيدغر: ملذات الهيرمينوطيقا

ثقافة وفن
  • 13-03-2022, 08:30
+A -A

إسكندر حبش*
يجمع كتاب “مفاهيم الميتافيزيقا الأساسية «(1)، المحاضرات التي ألقاها الفيلسوف الألماني مارتن هيدغر في جامعة فرايبورغ بين عامي 1929  - 1930، أي بعد سنتين من كتاب «كينونة وزمن»، الذي لم يُعلن مؤلفه، يوماً، أنه قد انتهى من كتابته. فمثلما هو معروف في تاريخ الفلسفة، أن هيدغر، كان نشر «كينونة وزمن» العام 1927 في «حوليات الفلسفة والأبحاث الفينومينولوجية» التي كان يُشرف على إصدارها إدموند هوسرل. 

ليصلك المزيد من الأخبار اشترك بقناتنا على التليكرام
 
ومع أن الفيلسوف الألماني «كتبه بسرعة ولم ينهه أبداً»، إلا أنَّ الكتاب هذا، تخطى الطموح (مثلما جاء في مقدمته) الذي أراده مؤلفه، ليصبح أحد أكثر المؤلفات تأثيراً في فكر القرن العشرين ووسماً له، بل ربما عرف قدراً أكبر من ذلك؛ فلو عدنا إلى إيمانويل ليفيناس لوجدنا أنه اعتبره، كما إيمانويل مارتينو (الذي أعاد ترجمته العام 1983)، بأنه «تحفة القرن العشرين»؛ ويمكن أنْ نضيف أيضاً، بأنه العمل الأكثر شهرة لــ مارتن هيدغر، على الرغم من أنَّ أعماله الكاملة التي صدرت في ألمانيا عن منشورات «Gesamtausgabe” تقع في 110 كتب. فتأثيره امتدّ إلى مجالات أخرى متعددة، ولم تبقَ في مجال الحقل الفلسفي فقط، ليشكل مع «التيّار الوجودي»، أكثر الأفكار التي قلبت الكثير من المفاهيم في الأدب والعلوم السياسية والتحليل النفسي والمنطق واللغة والتاريخ والنقد الأدبي كما «الفلسفة الظواهرية التي اُجبرت على العودة إلى ممكنها» (مثلما يقول جان – بيير كوميتي ودومنيك جانيكو) (2).
ثمة أهمية استثنائية تتبدى عند قراءة «مفاهيم الميتافيزيقا الأساسية»، إذ إنَّه يقدم لنا العرض الأوضح والطريق الأسهل للولوج إلى فلسفة هيدغر الأولى، مثلما يسمح لنا بإلقاء الضوء على بعض الثيمات وتعميقها، إذ إننا نرى هنا، وعلى الواقع، «البروفسور» بعيداً عن المألوف والذي لم يستسلم بعد لــ «ملذات الهيرمينوطيقا»، مثلما نراه في حواراته مع آخرين، كما كان يميل – أكثر فأكثر – إلى فعل ذلك، في تلك الفترة.يكشف لنا، في هذه القراءة، تأملاً ساحراً حول العالم، حول السأم الذي يُشكل «حجر الزاوية» الأساسي في كينونة الإنسان، حول الاختلاف بين هذا الأخير وبين الحيوان، أي بمعنى آخر، يُشكل تأملاً في الحياة بكلّ تفاصيلها.
فعلى ضوء هذه المفاهيم الميتافيزيقيَّة، يُسائل هيدغر تمثلات العالم المعاصر. أيّ دور منوط به؟ لذا نجده يهتم، وبشكلٍ خاصٍ، بأولئك الذين يُطلق عليهم اسم «الثوريين المحافظين» الألمان، وفي طليعتهم أوزفالد شبنغلر وإرنست يونغر. لهذا السبب، لا يمكن لنا أنْ نقرأ دروس العام 1929، على سبيل المثال، من دون أنْ نفكر بما آل إليه تتابع الأحداث في ألمانيا في ما بعد، كما في انتساب هيدغر لاحقاً إلى النازية. غالبا ما جرت محاولات – في فرنسا بشكل خاص – تفريق فلسفة هيدغر عن الفترة التي كان فيها رئيساً للجامعة في فرايبورغ، كما لو كنّا ننـزع حبّة القمح الجيدة من مكانها في داخل السنبلة. لكن، وفي الجانب الآخر، نجد مثلاً أنَّ تلاميذه في ألمانيا – وعلى رأسهم لويث (Lowith) وبوغيلير (Poggeler) – قد عملوا جاهدين، ضد هذا الأمرـ بل اعتبروا أن تلك الحقبة، تعطي العديد من الإيضاحات المهمة في مسيرة الفيلسوف، ولا يجب القفز فوقها ولا بأي شكلٍ من الأشكال. من هذا المنطلق، ومن هذه القراءة لسيروة الأحداث، يجد ريشار فولين (3) في كتابه المميّز، أنَّ موافقة هيدغر على طروحات القومية – الاجتماعية تنساب من «سياسة الكائن». ففرادة هذا العمل، تكمن في عدم اتكائه على معطيات السيرة الذاتية (على سبيل المثال، رفض الكاتب تقديم أي نوع من أنواع النقد الذاتي )ولا في تقديم نوع من التحليل السوسيولوجي (مثلما فعل بيير بورديو بشكل لافت للانتباه (4))، بل إنَّ فولين يقوم بعملية كشف لمعايير فكر هيدغر الداخلية. من هنا، ينتقل من نقد التصرف السياسي إلى نقد الفكر الفلسفي.
بهذا المعنى، يقترب فولين من تحليل بورديو، إذ إنَّ هذا الأخير قد اعتبر بأنَّ  «الخطاب الفلسفي»، ككلّ أشكال التعبير الأخرى، «هو نتيجة صفقة بين نيّة تعبيريَّة وبين الرقابة التي يمارسها الفضاء الاجتماعي التي عليها أنْ تُنتج نفسها داخله». من هذا المنطلق يميل بورديو إلى اعتبار أنه «ولكي نفهم عمل هيدغر في حقيقته الفلسفية والسياسية التي لا تتجزأ، علينا أنْ نعيد العمل بالتلميح الذي يتيح له أنْ يكشف وهو يقوم بعملية الإخفاء هذه النزعات وهذه الالتباسات السياسيَّة. علينا أنْ نحلّل منطق المعنى المزدوج والمعنى الضمني التي تسمح لكلمات من اللغة العادية أنْ تشتغل في الوقت عينه في سجلين مرتبطين بشكلٍ عليمٍ ومتباعدين». لأن وضع (أمر) «في شكل فلسفي، هو أيضا وضعه في أشكال سياسية: أي أنْ يقدم بشكل مقبول فلسفياً – من خلال جعله لها غير معروفة – الثيمات الأساسية لــ «الثوريين المحافظين». إذًا وبشرط أنْ نعيد «بناء مختلف الرؤى المتنوعة للعالم الذي يعبر عن نفسه بفظاظة عند كتّاب ألمانيا في حقبة فايمار، كما المنطق الفكري والاجتماعي المتين للحقل الفلسفي الذي هو العامل الحقيقي لتحول مزاج الـ «فولكيش» (völkisch) (*) إلى فلسفة وجودية، عندها يمكننا أنْ نفهم الأنتولوجيا (Ontologie) السياسية لمارتن هيدغر، من دون أنْ ننهمك في تحديد الانقسامات.. بين النص والسياق، أو بين رئيس الجامعة النازي و»راعي الكينونة”.
لقد سبق لهيدغر أنْ أشار في «كينونة وزمن» إلى تصنيفات التصميم والقرار التي تسمح بالخروج من الــ «نحن» التي يكون ملتصقاً فيها الإنسان المتوسط. فتطبيق هذا المفهوم «البروميثيوسي» (من بروميثيوس) في السياسة، يشرح لنا انتساب هيدغر إلى الحزب النازي وهو الانتساب الذي «يتخذ جذوره من اتجاهاته الفكرية الأعمق». وعلينا هنا ألا ننسى – بل يجب أنْ نضيف إلى الفكرة السابقة – كره الفيلسوف للحداثة والديمقراطية وتلك الفكرة التي كان يمتلكها عن قدر ألمانيا الاستثنائي، حيث اعتقد أنه يمكن لها أنْ تتجسد عبر القومية – الاجتماعية. 
على المنوال ذاته الذي قام به فولين، نجد جاك تامينيو (5) الذي يُسجل أهمية المحاضرات التي ألقاها هيدغر حول نيتشه، في منتصف ثلاثينيات القرن العشرين، والتي شكلت لاحقاً بداية هذا التحول الشهير. ففي هذه المحاضرات، دخل هيدغر في حوار عميق مكثف مع نيتشه. إذ، انطلاقا من إرادة القوة، أي من فكرة «الإنسان الخارق» (السوبرمان)، نظر إلى القومية – الاجتماعية، حيث رأى فيها تلك الحركة الأصلية المعارضة لــ «النيهيلية» (العدمية). لقد تبدّل كلّ شيء، على مرّ هذه الدروس: الإرادة أصبحت تدميرية. من هنا، جرى انزياح أساسي وكبير في فكر هيدغر. إذ إنَّ فلسفة الوجود التي كانت متمركزة على الــ «الداسين» (Dasein) أخلت مكانها لتاريخ الكائن. بهذا المعنى حلّ التأمل مكان القرار.
بيد أن مناطق غموض فكر هيدغر و»المآزق» (فيه) لا تزال قائمة. من هنا، محاول حنّة أرندت، الجادة، في تحليل تمركزاتها. هذا التحليل، هو ما يُشكل موضوع كتاب تامينيو. ففي دروسه حول «مفاهيم الميتافيزيقا الأساسية» نجده يأسف على أنّ، مع أفلاطون وأرسطو، «مات التساؤل الحيّ أمام فلسفة المدرسة». من هنا، والسؤال الذي لا بدّ أن يطرح نفسه: ألم يكن هو نفسه – أي هيدغر – ذلك «المفكر المحترف» بامتياز؟ ألم يكن يضع الفلسفة فوق كل شيء؟ لدرجة إلى أنه لم يرَ في التاريخ الغربي سوى فلسفة الميتافيزيقا.
حول هذا التصرف، تعمل أرندت على نقده بشدّة. فبعد فترة أولى من «الانسحار» به عاطفياً وفكرياً، جاء دور الشعور بالمرارة، المرارة التي شعرت بها حين ارتبط هيدغر بهتلر، الذي تحول في أواخر حياته إلى «سخرية نقدية». تقول حنّة أرندت «بأننا من العالم وليس فقط في العالم». من جهته، كان هيدغر يحاول أن يؤكد عكس ذلك، ولهذا السبب نجد أن لفكره بُعداً «ذاتوياً» (وحدة الأنا، أو «السولبسية»، وفق التعريب الحرفي الذي استعمل في بعض المراجع)، لذا لم يكن هدف هذا الفكر الانشغال لا بالأخلاق (La Morale) ولا بالخلقية (الاتيقا، L’Ethique). فالقرار والعمل والحرية والمسؤولية هي ذات سمات مجردة. من هذه الزاوية جاء قول كارل ياسبرز: «لا يعرف هيدغر ما معنى الحرية». ربما هذا ما يشرح طريقة «تصرف سياسة» الكائن. كان هيدغر «مفكراً محترفاً» (يطلق هذا اللقب على المشتغلين بالفلسفة وعلى أساتذتها الجامعيين)، هذا صحيح، لكن أيضا «يا له من عبقري»! هكذا تتذكره حنّة أرندت بسحر. أما هانز جوج غادامير، فيذهب إلى أبعد من ذلك، حين وصف دروس هيدغر في ماربورغ التي تابعها كطالب، وذلك قبل أنْ ينشر أستاذه «كينونة وزمن». يقول غادامير «إنه باحث ذهبي عن اللغة والفكر، كنّا نشعر بمسّ كهربائي حين نستمع إليه». هكذا يتذكر معلم «الهرمينوطيقا»، غادامير، في سيرته الذاتية الفكرية «التلمذة الفلسفية». يتذكر هيدغر في سنواته الأولى كما في سنواته الأخيرة، إلا أنه يتجنب الحديث عن سنوات رئاسته للجامعة. صحيح أنَّه يستدعي في هذه السيرة الكثير من الأسماء اللامعة مثل هوسرل وشيلير وياسبرز وبولتمان، الخ... إلا أنَّ هيدغر يبدو وكأنه القطبة الخفيَّة التي تنسج كل هذه الوجوه وتربطها ببعضها البعض.
مهما يكن من أمرـ فهذا الكتاب منسوجٌ من 
وقائع لا يمكن تغييرها، وقائع عن سبعين سنة 
من الفكر الألماني. وبهذا المعنى أيضاً، لا يمكننا أنْ نقرأ هيدغر اليوم إلا بكونه جزءاً من هذا الفكر الألماني أي قراءته بكل تفاصيله، ومن كل وجوهه التي شكلت وجهاً واحداً في نهاية... الكتابة.
 
Martin Heidegger, Les concepts Fondamentaux De La Métaphysique, (Ed. Gallimard).
Jean-Pierre Cometti et Dominique Janicaud (dir.), Être et Temps de Martin Heidegger : questions de méthode et voies de recherche, Marseille, Sud, 1989.
Richard Wolin, La politique de l’être, (Ed. Kime).
Pierre Bourdieu, L’ontologie politique de Martin Heidegger,(Ed de Minuit)
Jacques Taminiaux, La Fille De Thrace et le penseur professionnel-Arendt et Heidegger, (Ed. Payot)
 
 (*) الفولكيش: تيّار ثقافي وسياسي ظهر في ألمانيا في نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين ويعدُّ وريثا لتيار «التوتومان» الذي يشمل مجموعة من الشخصيات كان مشروعها في إعطاء الألمان روحانيَّة وثنيَّة، أي «الباغانية الجرمانية». وقد وجد هذا التيار نبع أفكاره في الرومنسية الألمانية العائدة للعام 1840  كما في خيبات الفترة ما بين 1849 – 1862، أي ما بين سحق «ربيع الشعوب» ووصول بيسمارك إلى الحكم في بروسيا.
 
*كاتب من لبنان