الانتقال من الشــعر إلى الـــرواية

ثقافة وفن
  • 16-02-2022, 08:17
+A -A

بُرهان شاوي
كثيرا ما نقرأ لبعض الصحافيين أو الروائيين أو الشعراء، وهم يتحدثون بسخرية مبطنة عن تحول الشعراء إلى النثر وانتقالهم من القصيدة إلى الرواية، مرددين جملا وكليشهات أحيانا تبدو ساذجة، منها مثلا، إن الشاعر الذي يتحول لكتابة الرواية هو شاعر فاشل، كما أن الروائي الذي كتب في النقد هو روائي فاشل. وهكذا، وكأنما التنوع والانتقال من تجربة للتعبير الجمالي إلى تجربة إبداعية أخرى هو فشل في إحداهما. هذه الآراء تكشف عن جهل بتاريخ الرواية العالمية وحتى بالشعر العالمي، كائن من كان قائلها.

ليصلك المزيد من الأخبار اشترك بقناتنا على التليكرام
 
الأدب العالمي
سأتوقف هنا عند الرواية العالمية لأكشف علاقة الشعر بالرواية من خلال التجارب الإبداعية لأسماء مشهورة جدًا في تاريخ الأدب:
تأريخ الرواية العالمية يزودنا بأسماء كثيرة لشعراء كتبوا الرواية بعد أن مارسوا كتابة الشعر وعروفوا كشعراء. في الأدب الروسي العظيم يتألق اسم أعظم الشعراء الروس وأكثرهم شهرة في العالم: (ألكسندر بوشكين)، الذي يُعد أشهر وأعظم شاعر روسي في عصره وعلى مر تاريخ الشعر الروسي، والكل يعرف أن بوشكين توجه لكتابة القصص النثرية والروايات القصيرة والمسرحيات، بل وربما القارئ العربي يعرف روايته القصيرة (ابنه الآمر) أكثر مما يعرف شعره الرائع.. 
بعده يتألق اسم الشاعر الشهير (ميخائيل ليرمنتوف) الذي صارت روايته: (بطل من زماننا)، أشهر عمل إبداعي له، بل طغت على شعره، حتى أنها ربما العمل الوحيد الذي ترجم إلى جميع لغات العالم الحية تقريبًا، بل وهناك الملايين الذين لم يقرؤوا شعره لكنهم قرؤوا هذه الرواية
الفريدة له. 
وكذا (إيفا تورغينف) صاحب الروايات الشهيرة: الآباء والبنون، رودين، فيوض الربيع، الحب الأول، فقد كان شاعرا، بل إن الدراسات الحديثة تقول إنه سبق بودلير ورامبو في كتابة قصيدة النثر.
لقد توقفت عند هذه الأسماء في الأدب الروسي الكلاسيكي لأنها من أهرامات الشعر الروسي والرواية في القرن التاسع عشر، بينما الأدب السوفيتي عرف أسماء عديدة كتبت الشعر والرواية، منها على سبيل المثال: اندريه بيلي و قسطنطين سيمنوف.
الأدب الفرنسي يقدم لنا أيضا أسماء مهمة، أشهرها على الإطلاق (فيكتور هيغو)، شاعر الرومانسية الفرنسية، الذي يعرفه ملايين القراء في العالم من خلال رواياته الشهيرة والخالدة: (البؤساء)، (أحدب نوتردام)، (عمال البحر)، ومسرحيته (هرناني)، بينما يُعد فيكتور هيغو هو من أكبر شعراء فرنسا في القرن التاسع عشر بل وأهم ممثل للرومانسية في الشعر الفرنسي. وكذا مع (أميل زولا) الذي كان يكتب الشعر قبل أن يتحول إلى كتابة القصص والروايات والمتابعات
النقدية.
 أما في العصر الحديث، فعلى سبيل المثال نرى (لوي أراغون) الشهير الذي نعرفه من خلال (إلزا وعيون إلزان) و(مجنون إلزا) بينما هو صاحب الروايات المسلسلة والتي من أشهرها (الفلاحون).  وكذا مع (أندريه بريتون)، الأب الروحي للسوريالية الذي كتب روايته (ناجدا)، وربما هي أشهر من شعره، ومن بياناته عن السوريالية نفسها. الأدب الايطالي أيضا يذكرنا بأسماء شهيرة، منها الشاعر والروائي والمسرحي، حاصل نوبل في العام 1934 (لويجي بيرندللو)، المعروف بمسرحياته الخالدة، ومنها: (ست شخصيات تبحث عن مؤلف) و(هنري الرابع). فمعروف عنه قبل تحوله كان يكتب الشعر.
وكذلك الشاعر والروائي (إدواردو سانغوينتي) المعروف بروايتيه: (نزوة ايطالية) و(لعبة الوزة). وكذا مع (ناني بالستريني)، الشاعر، الذي كتب رواية: (نريد كل شيء)، التي صارت مانفيست لليسار المتطرف في ايطاليا. وأيضا الروائية والشاعرة (إلسا مورانتي) التي اشتهرت بروايتها: (كذبة السحر)، مثلما اشتهرت بمجموعتها الشعرية: (الأطفال ينقذون العالم). وأيضا هذا الأمر مع (ساندرو بينا). وهناك المثال الأبرز (بازوليني)، الشاعر والسينمائي والروائي، صاحب (رماد غرامشي). وأيضا (كلاوديو بوتزاني)، الشاعر المعاصر والمعروف أيضا بروايتيه: (الزوايا الزائلة) و(كيت وأنا)، ومجموعته القصصية (حكايات القدم الباردة).
الأدب الألماني غني بمثل هذه الأمثلة، فهناك الشاعر العظيم (غوته) الذي ترك لنا (آلام فيرتر)، التي صارت ظاهرة في عصرها، حيث أخذ الشباب يقلدون فيرتر بالانتحار.  وكذا مع الروائي (تيودور فونتانه) الذي ترك لنا عدداً من الروايات التي من أشهرها: (إيفا بريست)، التي تُعد (آنا كارنينا) الألمانية، لكن المعروف عنه أنه بدأ حياته الأدبية شاعرًا.  وهناك أيضا الشاعر والمسرحي الكلاسيكي الشهير (هاينريش فون كلايست)، بل وحتى مع الأب الروحي للرومانسية الألمانية (نوفاليس)، ومن المعاصرين نجد: (هاينريش بول) و(غونترغراس). كل هؤلاء بدؤوا بالشعر وانتهوا
بالرواية.
الأدب الإنكليزي قدم لنا نماذج أخرى أشهرها: (الأخوات برونتي) اللاتي، في بداياتهن، أصدرن ديوانا شعرياً مشتركا بعنوان (قصائد). وكالعادة كان بأسماء مستعارة.  
وكذلك (توماس هاردي) و (رديارد كيبلنغ) و( د.ه. لورانس) صاحب (عشيق الليدي شاترللي) و( نساء عاشقات) و(العذراء والغجري) و(الطاووس الأبيض)، بينما جمعت قصائده في مجلد ضخم يعد إضافة للشعر الإنكليزي. كل هؤلاء كانوا شعراء واصدروا كتبا شعرية قبل توجههم للرواية. 
الأدب الأميركي قدم نموذج الشاعر الروائي (سكوت فيتزجيرالد) صاحب الرواية الخالدة (غاتسبي العظيم). وقبله (آدغار آلن بو)، وفيما بعد (راي باردبري)،  (جميس بالدوين)، (تشارلس بوكوفسكي)، وليس انتهاء بالشهير (بول أوستر) الذي نال جائزة بوليتزر عن مجاميعه الشعرية ويعد أهم مترجم للشعر الفرنسي إلى الإنكليزية.. كل هؤلاء شعراء من الوزن الثقيل لكنهم توجهوا لكتابة الرواية.
أما الأدب الأسباني فقد قدم لنا نماذج أخرى: فأحد آباء الرواية العالمية (سيرفانتس) كان شاعراً، فهو صاحب الرائعة الخالدة (دون كيوخوته)، وكذا الشاعرة والروائية الكوبية الكلاسيكية (خيرترديس دي آبييانيدا)، والشاعر والرسام والروائي (خوان ليون ميرا) الذي اشتهر بروايته كوماندا. 
وفي القرن العشرين الشاعر والصحفي الغواتيمالي (ميغيل أنخل استورياس) الذي اشتهر بروايته (السيد الرئيس)، وكذا (خورخي بورخيس) الذي لم ينقطع عن كتابة النثر والشعر.
اليابان قدمت نماذجها مهمة في هذا المجال، حيث كانت واحدة من شاعرات الأدب الياباني (موراساكي شيكيبو) التي كتبت روايتها (قصة جيجي) قبل الف عام تقريبا، وتُعد واحدة من أقدم الروايات في تاريخ الأدب
العالمي. 
وفي الزمن الحديث نجد أن (يوكيو مشيما) الذي كان شاعرا يابانيا مهما، وكذلك (كوبو آبي)، الحاصل على جائزة نوبل، والذي كان قد أصدر في البداية مجموعته الشعرية «قصائد لشاعر غير معروف»، قبل أن يتوجه للرواية ويقدم رائعته «امرأة في الرمال»، وكذا مع شاعرالهايكو (ناتسومه صوسيكي)، الذي كتب روايات مهمة فيما بعد.
الهند قدمت لنا أنموذجها الأشهر: الشاعر والروائي والمسرحي: (رابندراناث تاغور).
     
الأدب العربي
الأدب العربي ليس استثناءً، فقد قدم نماذج مختلفة منذ فترة جبران خليل جبران، مرورا بأحمد شوقي، والعقاد، وانتهاء بالتجارب الحديثة، التي أبرزها، على سبيل المثال، في سورية سليم بركات، وفي الأردن أمجد ناصر، والمغرب محمد الأشعري، ولبنان عباس بيضون، وحسن داوود، وتونس محمد علي اليوسفي، السعودية غازي القصيبي، والسودان أمير تاج السر، وتتعدد النماذج في العراق، حيث نجد معظم كتاب موجته الروائية الجديدة لديهم تجربتهم في كتابة الشعر: حميد العقابي، محسن الرملي، عبد الهادي سعدون، سنان انطوان، أحمد سعداوي، محمد جبر علوان، جنان جاسم الحلاوي، هاشم شفيق، وحميد قاسم. وغيرهم.   بالإمكان الاستشهاد بأسماء أخرى أكثر من هذه، لكني آليت التوقف عند الأسماء المتداولة عربياً، مع التأكيد بأن هذا الحصر المكثف الذي استشهدتُ به، يقف عند حدود شكل الكتابة. ولا يمس جوهر شعرية النص، وقيمته الإبداعية، فقضية الشعرية ليست لها علاقة بجنس الكتابة الإبداعية هنا، من حيث أن شكل النص هنا يخضع للتعريفات الشكلانية كونه شعراً أو سرداً روائيا. 
ولست هنا بصدد الدخول في تفاصيل طبيعة النص الشعري واختلافه عن النص السردي الروائي.، فهذه قضية أخرى، لا أتوقف عندها الآن، وإنما أردت التوكيد بأن توجه الشاعر لكتابة الرواية ليس معجزة، ولا لغزاً، وليس فشلاً في توكيد الذات الشاعرة، كما يروج البعض، أو يفهم الأمر كذلك. 
 
الرعشة الشعريَّة الوجوديَّة
توجه الشاعر إلى السرد الروائي ليس جديدًا كما أوضحنا، لكن السؤال الجوهري هنا: لماذا يتوجه الشاعر إلى الرواية..؟ ما الذي يدفع بالشاعر إلى التوجه لممارسة الكتابة بأسلوب معارض لآليات القصيدة..؟ وأقصد هنا أن يغادر الشاعر كتابة القصيدة التي تتميز بكثافة اللغة والاقتصاد فيها، وكثافة الصورة الشعرية، وتقطير اللغة، وحصر الرؤيا الوجودية والفكرية في عالم أشبه بعالم الذرة، محققاً مقولة النفري: “كلما اتسعت الرؤية ضاقت العبارة..” ليتوجه إلى انجراف لغوي عنيف، مسترسلاً في الوصف، وفي سرد التفاصيل، وكأنما يلغي المبدأ الذري للقصيدة بالكثافة، مؤكداً أنه “كلما اتسعت الرؤية فاضت اللغة وانساب  الكلام”..!!، وليس كما قال النفري. ومرة أخرى أود التأكيد بأن الحديث عن الشعر والسرد الروائي لا علاقة له بمفهوم “الشعرية” العميق.. فليست كل قصيدة تنبض بالشعرية، فهناك ركام هائل من القصائد التي لا يجد المتلقي فيها (الرعشة الشعرية الوجودية)، رعشة الإحساس الجمالي والمأساوي بالوجود. وركام القصائد هذا، من الناحية النظرية، ومن ناحية شكل الكتابة هو “شعر”، والشكل المكتوب فيه هو شكل “القصيدة”، لكنها ليست شعرًا بالمعنى الحقيقي لجوهر الشعر، بينما نجد روايات نثرية تنبض بـ “الشعرية” العالية، ولا يمكن اعتبارها نثراً إلا من باب الشكل اللغوي. ويمكننا الاستشهاد بعشرات الروايات التي يزدحم بها الأدب العالمي، والتي تنبض بـ “الشعرية” العالية، بل يمكن القول بأن شعريتها هي التي أبقتها قوية تمخر عباب الزمن، وتتألق عبر العصور.. 
 
جوهر الفعل الإبداعي
ليس لي هنا سوى أن أذكر بسرعة ودونما استذكارات ومراجعات خاصة: ألف ليلة وليلة، دون كيخوتة لسرفانتس، آنا كارنينا لليف تولستوي، الأحمروالأسود لستندال، الأب غوريو لبلزاك، والجريمة والعقاب، والأخوة كرومازوف، لدوستويفسكي، “ثلاثية” نجيب محفوظ، بطل من هذا الزمان لليرمنتوف، الآباء والبنون لتورغينف، مرتفعات ذرينغ لأميلي برونتي، وتراجيديات اسخيلوس  وسوفكليس ويوربيدس، وجان راسين..! وعشرات الأعمال الخالدة. 
فهذه الأعمال ترتقي إلى الذرى العالية والخالدة، لتوهجها بشعرية النص والموضوع والفكرة وأسلوب السرد، وما إلى ذلك من عناصر أدبية الرواية. 
لكن يبقى السؤال: لماذا الرواية وليست القصيدة؟ لماذا خلود شكسبير جاء من نصوص رواياته المسرحية وشخصياته أمثال: هاملت، الليدي ماكبث، والملك لير، وريتشارد الثالث وعطيل، وليس فقط  من السوناتات الرائعة..؟
هل للأمر علاقة بوعي الشاعر للتاريخ، ولوجوده في اللحظة التاريخية المحددة ليتكشف من خلالها لغز الزمن ومعنى الحياة..؟ هل لأن الرواية أكثر استعدادا لاحتضان الوعي التاريخي للشاعر من القصيدة..؟.
هل الرواية تمنح الشاعر الحرية في أن يتوغل في أسئلته، تاريخيًا وجماليًا، وفلسفيًا، ويدخل إلى تفاصيل أكثر عمقا بما لا تتحمله القصيدة. هنا لا أتحدث أنا عن الوعي الوجودي، إذ يمكن للقصيدة أن تحتضن بعمق هواجس الشاعر الوجودية، لكني أشك في قدرتها، أو حتى استعدادها لاحتضان وعيه التاريخي ورسم ملامح علاقة الشاعر بالتاريخ..!. 
(الشعرية) هي التي تحدد جوهر الفعل الإبداعي الجمالي. لاسيما إذا تعددت الأصوات في النص.  وهذا يحيلنا إلى (أصوات الشاعر) في القصيدة التي تحدث عنها (ت. إس. إليوت). ففي المستوى الثالث حين تتعدد الأصوات، ولا يبقى صوت الساعر وحده، سيدخل في حوارية مع الأصوات الأخرى، ويدخل إلى حقل يبتعد إلى حد ما عن (القصيدة ذات الصوت الواحد) و (ذات الصوتين)..!..وإذا خرجت القصيدة من تعدد الأصوات فإنها ستدخل في أشكال أخرى من التعبير حتى لو كانت شعرًا.
الرواية تمنح الشاعر الحرية في التعبيرعن حشد من الأصوات والشخصيات واللحظات التاريخية والظلال المعرفية التي لا يمكن للقصيدة أن تحتويه.  
ومن هنا فإن توجه الشاعر إلى الرواية لا يلغي كونه شاعرًا. بل إنني أرى أن الروائيين هم فرسان “الشعرية” وحاملو رايتها حتى وإن لم يكتبوا نصًا شعريا في شكل القصيدة المتعارف عليه. 
الروائيون يبحثون عن رعشة الوجود المأساوية في حشد الشخصيات والأصوات وعالم الإنسان النفسي وفي اللغة والبناء السردي وتفاصيل الواقع العبثي باحثين فيها عن المعنى، وإذا ما فقدت الرواية هذه العناصر فإنها تخرج من جنس الرواية لتقع في حقل الحكاية وأصنافها من الريبورتاجات
السردية.