الحبُّ وقصيدة النثر

مقالات
  • 14-02-2022, 08:40
+A -A

بغداد: ابتهال بليبل 
تذكرني أيقونة الحب والجمال مارلين مونرو، دائماً بقصيدة النثر. مونرو هي قصيدة نثر في حياة أخرى. لقد اكتشفت نجاحها في تشويه كل شيء من حولها كما اكتشفت قصيدة النثر أن لديها قدرة على الهدم «والبناء خارجاً عن كل تحديد، برأي الناقدة الفرنسية سوزان برنار». 

ليصلك المزيد من الأخبار اشترك بقناتنا على التليكرام
تعبر قصيدة النثر عن تجارب متباينة، حياتية وثقافية، شأنها شأن اي نمط كتابي آخر، غير انها تستبطن حرية أوفر من سواها، متفادية الكثير من الضوابط والقواعد.
وأهم التجارب الانسانية التي شكلت ينبوعاً زاخراً للكتابة كانت تجربة الحب. فكيف تعاطت قصيدة النثر مع هذه التجارب؟.
هناك من يتكلمون عن الحب والغرام ولكنك قد تعثر على بعد أمتار منهم على طفل جائع أو امرأة مصابة بالسرطان وغير ذلك من مآسٍ، حتماً، لو حدث واستمعت بعمق لهم، فلن تجد أنها شيءٌ، وهكذا قصيدة النثر.. ولكن هل بالفعل، يكاد الحب يغيب عن قصيدة النثر؟
 
الروح الفلسفيَّة
نعم، كلمة «يكاد» في محلها تماماً، إذ إن الحب في النصوص النثرية، لا يختفي تماماً ولكنه أيضاً ليس محوراً جوهرياً فيها، ويرجع سبب ذلك، على وفق تعبير الشاعر مهنّد الخيگاني إلى كونها قصيدة لها جينات رفضية تتجاوز حيناً، وتراوغ أحياناً أُخر كل ما هو سائد ومألوف وشائع.
الحب بالنسبة للخيگاني، هو أحد الموضوعات التي استهلكتها الآداب وحرثت في ترابها العلوم منذ ولادته وعلى اختلاف تصانيفه.  
هذا جانب، حسبما يراه، يتعلق بماهية قصيدة النثر وأسسها التي وجدت بسببها، وهو إلى حد ما الجانب نفسه الذي يجعلنا نمتعض من قصيدة النثر المغرقة في التغريض والعمودية/ القبلية/ الذكورية. 
يرى الخيگاني بأن الحب القليل في قصيدة النثر، مرة يأخذ منحى غزلياً حاله حال الغزل القديم المستغرق في الرومانسية والوصف، ومرة يطرق بابه الآخر، الذي يخفي خلفه
المآسي. 
ويعتقد الشاعر أنه يميل بالفعل إلى قصيدة النثر ويكتبها أيضاً، لأن نصوصها تخاطب المرأة خطاباً تمتزج في مياهه، العاطفة والمعرفة، فتخلق تلك الروح الفلسفية التي تعبر عن رؤيتين في آن واحد، ترتبط إحداهما بالأخرى: واحدة عن المرأة/ الحبيبة، والثانية عن العالم والحياة المحيطة بهما، وانعكاس بعضهما على بعض من دون
تمايز. 
الخيگاني يشير إلى أن النصوص الكئيبة، تحمل في كريات دمها نوعاً من الحب، لأن الشاعر والفنان حينما يرفض واقعاً مريراً أو ظاهرة تسيء إلى العيش والإنسان، هو تعبير عن حرصه وحبه للحياة.
ولو نظرنا إلى القصيدة النثرية من هذه الزاوية سنجد الكثير من الحب الواعي والمتأمل والرافض.
           
قصيدة كونيَّة
ولكن القاص والكاتب ميثم الخزرجي لا يجد أن هناك تغييبا للحب في قصيدة النثر، بل يتعلق الأمر بقدرة الشاعر. 
وصراحة يرى أن قلة من الشعراء هم من يعرفون المزاغل الحقيقية لهذا الشكل الأدبي، ولهم القدرة في إقناع المتلقي بما يقدمون من قصائد
نثرية.
يعتقد الخزرجي أن قصيدة النثر كحال الأشكال الشعرية التي سبقتها، لها قاعها الثقافي ورؤاها الجمالية ونظرتها المتمردة التي تعضّد من خصوصيتها. فثمة نسق جدلي مناوئ لما قبله من علاماته الأولى، أنّه خالٍ من الأغلال والقيود المتضحة على جسده، فضلاً عن اجتراح أبعاد إنسانية محضة لها مدياتها وانزياحاتها المهمة داخل المتن والتي بدورها تؤدي إلى إعادة تدوير وصياغة الحياة على أنها سؤال إشكالي ينمو بتهافت الأزمات وتراكمها. 
قصيدة النثر كونية خالصة، بحسب الخزرجي، ولها متبنياتها الوجودية التي تستحضر من خلالها الهمَّ الإنساني بوصفه أحد الدلائل الذي يتضح من خلالها النص واعطائه وجهاً تنويرياً. 
فلسفة إنسانيَّة
الحب لا يمكن أن يغيب، بنظر الناقدة أشواق النعيمي، عن القصيدة عموماً، كونه المثير الأبرز للمخيال الشعري. ولأن قصيدة النثر تمتلك مساحات صورية أكثر وضوحا وسلاسة ومرونة على تصوير الأحداث والوقائع الاجتماعية والسياسية بعيداً عن قيود الأنماط التقليدية الجاهزة، الأمر الذي شجع كاتب القصيدة النثرية على التعبير عن فلسفته الإنسانية ورؤيته الكونية للعالم المحيط والانفتاح على مواضيع يرى أنها تمس حياة الإنسان وتثير اهتمامه أكثر من المواضيع الغزلية التي اصبحت بضاعة شعرية مستهلكة في رأيه.
 
النص العابر للذاتيَّة 
يمكن لدكتور الأدب العربي الحديث علي عواد عبد الله، بوضوح تحسس ذلك الميل الذي تسجله قصيدة النثر نحو الموضوعية في رصد الثيمة التعبيرية، فالحب بوصفه موضوعا ذاتياً جداً لا يلتصق كثيراً بهذا التجريد الفني الجديد، فهي تتوسع إلى الدرجة التي تجعل منه جزءاً تعبيرياً خاصاً لا يملي فضول الكتابة ولا يحقق الذات الكاتبة ولا يبرهن تلك اللمسة التي يصنعها الأدب للحياة. على هذا المنوال يعتقد الدكتور أن قصيدة النثر بدت تنسج خيوط اشتغالها لتجدها ميّالة إلى المركبات النفسية العامة والترسبات المجتمعية الخانقة والمطبات الأيديلوجية المعقدة، تنحت في صخر الوجود عبر هذه الموضوعات العامة التي تنفتح بشكل واسع باتجاه الأداة الإبداعية لدى كتاب قصيدة النثر، ولعل هذه النتيجة، وفق تعبير الدكتور، واحدة من أهم أشكال الحداثة في الآداب العالمية، ذلك أننا بدأنا نحقق الأثر الشكلي في الموضوعي، لنبقى أمام سؤال مهم: ما هي المزية الشكلية والفنية لقصيدة النثر والتي ساعدتها في انتخاب الموضوعات العامة والتجرد عن كل ما هو خاص؟ لتبدو الإجابة سهلة ويسيرة، يجيب عبد الله، أن قصيدة النثر ليست إلا شكلاً من أشكال التمرد والخروج على المسارات التقليدية للكتابة، فهي تنمو وتتأسس على الطابع المغاير، وبما أن الأشكال الفنية القديمة قد اتكأت على الثيم الكلاسيكية الوجدانية (الحب، الكره، المديح، الفخر، الرثاء...) فإن قصيدة النثر لن تجد نفسها إلا خارج هذا المسار الخاص، لتعمدَ إلى التحرر من سياقات التعبير المعروفة إلى سياقات أخرى أكثر اشتمالية للوعي المجتمعي العام.
 
ثيمة مستهلكة 
ويعتقد الناقد زهير الجبوري أنه لا يمكن لقصيدة النثر أن تحدد ملامحها وتدخل مضمار الشعر العربي في أنساقه السابقة في الغزل والمديح والنقائض وما إلى ذلك. 
قصيدة النثر، وفق تعبيره، مثل أي مشروع تحديثي فكري أو سسيو ثقافي.. قصيدة النثر مرآة عاكسة للواقع الذي يعيشه الإنسان المنتمي لملامحه المعاصرة.. بمعنى أننا ازاء تحديات وكشوفات غير عاطفية.. لذا جاءت بعيدة عن الحس الغنائي الذي يلامس الإحساس. 
ويرى الناقد أن قصيدة النثر تفكر بالتفاصيل الملامسة للواقع السياسي والاجتماعي والفكري، ولنا بعض الشعراء الذين بانت ملامحهم في ذلك كالشاعر كاظم الحجاج ومروان عادل وجواد الحطاب وغيرهم الكثير.. وكذلك دخلت قصيدة النثر في دقائق حساسة في ملاحقة الأنساق المضمرة والمسكوت عنه مثلما فعلت الشاعرة ابتهال بليبل، إذ سخرت القصيدة لكشوفات الجسد في إطاره الانثروبولوجي والبيولوجي النسوي معا، وهنا يقع الحس العاطفي في التكوين البنيوي المثير للمشاعر، باختصار، تقف ظاهرة الحب في النص الشعري عند القصيدة ذات البناء النبري (الصوتي).. وهنا بالذات يصبح لخصوصية الكتابة النثرية نوع من الكشوفات التي تسخرها اللغة الشعرية ذاتها، ولكن هذا لا يعني أن ثيمة الحب غير موجودة، لكنها غير طافحة أو مهيمنة.
إن (الحب) في زمن ما بعد الحداثة، يعد، بالنسبة للناقد، ثيمة مستهلكة.. لأمر يتعلق بالجانب البراغماتي الذي يبحث عن قيمة.. وقصيدة النثر ابنة النظام العولمي، وهذا لا يتوافق مع الرغبات الكبيرة التي يتمناها العالم بأجمعه. لذا، على وفق تعبيره، تبقى قصيدة النثر، القصيدة 
الباقية والمعبرة عن رغبة العصر، بعيدا عن فضفضة الهواجس والأحاسيس غير المربحة وغير المؤثرة في هذا الزمن