ساعة الطيران

ثقافة وفن
  • 14-11-2021, 07:41
+A -A

 علي الصالح
 

ليصلك المزيد من الأخبار اشترك بقناتنا على التليكرام
كان عليَّ أن أضبِط ساعتي على توقيت بيروت قبل أن تُقلع الطائرة وأنا على متنها مع انطلاق الرحلة، لكن ما حصل وبمجرد أن بَدت إطاراتها بالارتفاع عن الأرض والتصاقها بجسدها محدثةً ارتجاجا مخيفاً بالنسبة للذين يسافرون أول مرة، حتى انتبهتُ لتوقف عقاربها قبل أن تقترب من العاشرة صباحاً بتوقيت بغداد. شعرتُ بداية الأمر بانزعاجٍ ارتسم على ملامحي، بانت آثارهُ من خلال خطوطٍ عَرضية بهيأة مدرجات على جبهتي، ونمت كأسباد عشب ناشزة تفضحُ بي التأسف على هذه الساعة «الماركة». حَزنتُ كثيراً وعَددتُ ذلك بالفأل السيء في هذه الرحلة. الغريب جداً أني لم أشعر بالانقباض أو الحزن على حاجياتي التي تَعطل بسبب إهمالي في كثيرٍ من الأوقات، أو تلك التي لم تدم هرولتها كعداءٍ مُتعب لنهاية مرثونها الافتراضي معي كالمرة!، شعور العداء الفائز يلازمني حين تنتهي علاقتي بتلك الأشياء من دون أن تخرج عن الخدمة بعطل!، لكن، أن تنتهي العلاقة من بدايتها هذا أمرٌ محزنٌ. يبدو أنَّ الأشياء مثل البشر: من تراهنُ عليه ويخذلك من البداية كَساعتي هذه!، او من لا تهتم به لكنه يبقى معك حتى النهاية! أي مفارقةٍ هذه التي اجتمعت بها ذوات الأرواح مع نقيضاتها على سكون ساعتي؟، وأي فلسفةٍ هذه التي يصل لها الإنسان لفهم الإنسان من خلال الجوامد؟، شُحتُ بوجهي صوب النافذة المجاورة بعد أن استعدلت الطائرة بمسارٍ مستقيم، وتابعتُ انتشار الغيوم البيض التي يقطعها جناح الطائرة كما تقطع السكين كعكة الميلاد، وأنا أتخيل سفرتي هذه والأجندا التي رسمتها منذ البداية خروجاً من ضغط العمل والحياة الروتينية، تنثال صور البنايات الجميلة والوجوه الناعمة بين «شارع الحمرا» و»الروشة». يااااه..  العمرُ سرقني من دون أن أدري، لم أعطِ نفسي حقاً بالاستمتاع أو تجريب شعور التسكع واللامبالاة. ما هذا الانجماد اليومي والحياة الرسمية؟ ولمن؟! شعرت في مراتٍ عدة أني أكبرني عشرات السنين، حتى أني في واحدة من الصباحات تساءلتُ وأنا أتجمد أمام المرآة لتصفيف شعري مجبوراً كأي شخص يقف في طابور الجمعيات الغذائية ذات الأسعار المدعومة: من هذا الطاعن الذي يشبهني؟ أقف امام شخص ثانٍ يبحلق بعينيه الذابلتين ووجه شوهتهُ تجاعيد العمر قبل وقت الحصاد!، من هذا يا ترى؟، وأين اختفيتَ يا أنا؟، ببنطالٍ ضيق قصير وحذاء رياضي ابيض وقبعة رأس صرتُ أتجول بالقرب من صخرة الروشة، وأنا أكاد أنتقم من الزمن السابق إذ جعلني كثورٍ مشدودٍ لطاحونة يدور بذات المكان ولا يعلم ما هي النهاية! أتضوع عطر «الشانيل» من المارات، يبحلقن بسحنتي السمراء المميزة التي جعلتني كشامة كبيرة ناشزة في معشر هذا البياض. لا أكاد أخفي تفتني بهذه اللآلئ البشرية النفيسة وبحلقتها بي، لكن ما الذي ترجوه هذه النسوة من سائحٍ لا يمكث أكثر من اسبوع لمجرد تنشيط جهازه التنفسي وأخذ راحة بسيطة بعيداً عن أخبار الموت؟، ما الذي ترجوه هذه الفاتنات من هذا «الشيخ» الشاب صاحب التجاعيد والبثور الناشزة قبال من يمرون قربهن بعضلاتهم المفتولة ولمعان وجوههم المحمرة بلا مؤثرات أخرى؟، على ما أظن أنهم يتنفسون أوكسجيناً من نوع خاص غير ذاك الذي نستنشقهُ نحن. ربما هي اللعنة التي تطارد الكثير من مواطني البلدان النفطية، فبدلاً عن ترسباتها المفترضة في باطن الارض، صارت تستقر على وجوههم تفضح بهم الغنى والجوع بذات الوقت كما بان ذلك على وجهي!، انتبهت بعد عدة ارتجاجات للطائرة على وقع المطبات الهوائية قبل أن تشارف الرحلة على النهاية وتحط الطائرة على ارض المطار، يبدو أني سرحت بخيالي حيث التخطيط لبرنامج سفرتي التي أريدها مميزة بكل شيء وما المطبات الهوائية إلا مثل اجهزة الصدمة الكهربائية اعادتني إلى حيث ما زلتُ معلقاً بالجو أبحلق بعينيَ على مصباح أحمر ارتسمت عليه سيكارة بحرف «اكس».
كان سائق سيارة الأجرة ينتظرني في موقف قريب من بوابة مطار «رفيق الحريري»، شاهدني من بعيد أجر حقيبتي الصغيرة ذات العجلات الداكنة على البلاط اللامع، بان وجهي ممغنطاً أكثر من اللازم على البلاط وقدماي تتبعانه كقطين يتسابقن خلف فأر تائه. أعجبتني فكرة أن يسحق احدهم على رأسه دون ان يتأذى، تبدو فكرة سخيفة في بدايتها لكنها تشبه محاولات ركض الاطفال خلف الطائرات او التلويح لها من زاوية استكشاف العوالم الغريبة او افراغ ما بهم من طاقة فائضة باللعب، رمزية كبيرة في سحق الذكريات المؤلمة والاشخاص السيئين دعتني لتكرار المحاولة عدة مرات لكنها لم تفلح مادام رأسي يهرب طردياً باتجاه البوابة الرئيسة تتبعه هاتان القطتان بمسافة ثابتة، ومع تلويحي له، استعجلَ بلملمة حاجياته فقد كان مهموكاً بتنظيف مقاعدها استعداداً لهذا القادم الذي سيرافقه طيلة الاسبوع. تحرك باتجاه البوابة ونزل بسرعة. وضع الحقيبة في صندوق السيارة ثم أنه فتح الباب لي وانطلق صوب الفندق. 
كان عيسى ذا وجه متورد وذقن كث، طغت عليه سحنة جبلية صارخة اخفاها بلكنة لبنانية ناعمة. 
- عيسى هل عندكم هنا وكالة لساعات روليكس؟
- نعم سيدي «بتشديد الياء»
- طيب إذا ما في حرج ممكن تأخذني لها قبل الفندق؟
- ولو…  تكرم عينك، بس خير شوفي؟
- الساعة تعطلت مع اقلاع الطائرة ولا اعرف السبب
حرك عنقه يمينا وشمالا بان احتضانه لسلسال ناعم تدلت في اسفله حلقتان متلاصقتان وصليب ناعم، على ما اظن ان الاصدار الحديث لساعات روليكس فيه مشكلات فنية، تكرر مشهد التذمر من عطل ساعاتهم، حصل ذلك مع الكثير من الاشخاص الذين يركبون معي من المسافرين. قالها عيسى وراح يمضغ علكته بقوة. أبلغني التقني ان شركة رولكس استحدثت مستشعراً خاصاً يقوم بتعطيل الساعة لبعض الوقت في الكوارث ومن ثم يعيد تشغيلها دون اي تأخير في الوقت، استغربت من ذلك، عددته بطراً تقنياً او تخمة تكنولوجية لا فائدة منها، هل يَصدق ما قاله التقني؟، ثم إني -ولله الحمد- وصلت بسلام ولا مشكلة حتى الان. لم اقتنع بكلامه الذي يشبه عبارات المنجمين او ترهات المشعوذين في بداية الامر، فطمعاً ببعض الدولارات يمكن لأي شخص تأليف الكثير مما لا يصدق، خصوصا لمن هو سائح في بلد اخر لا تحميه قوة الحذر والابتعاد عن مزالق النصابين، فحتى الشركات العالمية اصبحت تستغفل زبائنها بطريقة لا تثير شكهم عبر منافذها من دون ان تهتم بسمعتها قبال المستهلك، هذه لعبة التكنولوجيا الحديثة، قلت ذلك بعد ان خرجت من الحمام. استغربت من عودة الساعة للاشتغال ذاتياً من دون تأخير في الوقت. لاحقاً عرفتُ صدق الرجل، فشريط الحداد الذي شاهدته على احدى القنوات العراقية وأنا أنظر بعين الدهشة لساعتي جعلني أعرف من توقفها ما يحصل حولي من كوارث، خصوصا بعد الاخبار المفصلة عن انفجار ساحة الطيران في بغداد وقتئذ اقلعت الطائرة صوب بيروت.