التاريخ يبدأ كل يوم

ثقافة وفن
  • 1-11-2021, 07:42
+A -A

 ياسين طه حافظ
 

ليصلك المزيد من الأخبار اشترك بقناتنا على التليكرام
يقولون لا تسبق الطرافة الحقائق. معنى هذا أن الصواب قليل ما يريح. ومعنى هذا أني ما اردت سحب كتابة التاريخ من الماضي. لألهو والعنوان له مضمون طموح لمزيد من التاريخية. انه يؤشر لإمكانية استمرار الكتابة التاريخية وحضور الأبحاث التاريخية حضوراً يومياً وبلا انقطاع. أكثر من هذا استمرار كتابة التاريخ واستمرار رؤية الحاضر وتواصلها، مما يفسح مجالاً ويعطي فرصة لجميع «المنتبهين». لأن يروا ولأن يرووا الأحداث. في هذا أيضاً كسر نفوذ الأحكام الشمولية على الأحداث والوقائع. تجميدها المكتبي وخزنها أو تحنيطها للرؤية والمراجعة، لم يعد يكفينا بحسب منظورنا الجديد أو المقترح. لأننا أصلاً لا نريد انقطاعاً ونريد اتصال التاريخ بالحاضر والأحداث القديمة ضمن التسلسل إلى الأحداث الجديدة والأخيرة. هنا تكون الحياة الماضية كلها أمامنا، لا قطعاً متباعدة ولا آثاراً «خبرية» أو «مادية» تختلف في دلالاتها الأفهام والاجتهادات. المدارس التاريخية القديمة، أعني مدارس فهم التاريخ ودراسته نفعتنا مذاهبها كما نفعنا تطور هذه الدراسات. لكننا تشبعنا بالمقولات ولا يخفى سأمنا من التكرار، تكرار الجوهر واختلاف الصيغ. في الرؤية اليومية للاحداث وفي تسجيلها، نكون قد فتحنا مجلد التاريخ الكبير لنظيف له لا مرويات ولكن مشاهدات ووثائق تواريخ أحداث، باليوم والساعة والشهر والسنة. لميشيل فوكو تفسير رؤيوي ثقافي متقدم لحال من التاريخ مقاربة، يقول : «نلمس ميزة أخرى لما حدث في السنوات الماضية، وهي أن الفقد الموضعي أو المحلي قد حدث من خلال ما يمكن تسميته بـ «عودة المعرفة»، وأقصد بعودة المعرفة أنه قد واجهتنا، في الأقل على المستوى الشكلي أو الاصطناعي، فكرة تقول: «لا للمعرفة، نعم للحياة، لا للمعرفة، نعم للواقع ...».
إذاً، نحن في حال استقبال المعرفة الجديدة وعودتها إلى ما كان. وأننا اليوم نهتم ونستعين بالحياة وبالواقع أو بالحياة الواقعية لفهم ما حدث وما يحدث فإذا ما أردناهما كما اقترحنا متكاملين وغير منفصلين تكون الحياة الواسعة للتاريخ الواسع لا بديلا عن المعرفة الواسعة ولكنها تهيئ مناخاً وبيئة للدرس السليم والرؤية الأوضح والأكثر واقعية ومنطقاً. الأهمية العالية للتدوين اليومي -الواقعي- أننا نضيف المعارف الشخصية، كمعرفة مؤهله للإسهام بالكشف. تأهيلها جاء من تراكميتها ومن حضورها الحي والمعاصرة أو المزامنة لما يجري ولما يحدث. نعم، يرد الاعتراض على الجمع بين معارف راسخة صارمة محفوظة وبين معارف وليدة، معارف محلية من ناحية وفردية من ناحية أخرى. والجواب أننا في مسعى لأنّ نصل قسمين من الحياة منفصلين.
نريد اتصال الحياة مسيرة وحيوية ومن ثم فهي رؤية تصل الاضاءة فيها إلى حدودنا. وبالرغم من كل ما يبدو مختلفاً أو متباعداً فثمة قربى بين رفض واجه قتلا وبين احتجاج حديث واجه رصاصاً أو اعتقالاً. الاختلاف موجود لكن التشابه في جوهر الفعلين موجود أيضاً.
ليس في صالح البحث عن الحقيقة أن يتساوى المرويّ القديم مع العينة المادية الملموسة، مع الحدث المشاهد حياً وهو يفقد حركته. هنا صورة وجود ومحيط مادي واسهام من المشاهد في رسم المشهد. ولذلك وقائع التاريخ الحديث تختلف من مشاهد أو ناقل، إِلى آخر. لكنها لا تختلف في اساسيات وجوهر الحدث. غاب هنا الغموض الاسطوري الذي لا يفارق التاريخ القديم، والذي يزداد كلما تقادم تاريخه. ليس المهم أن نزج أنفسنا في رسم وقائع تاريخية. لكن المهم أن وعينا الثقافي وقدراتنا البصرية والحسية، تشترك في رؤية وقراءة الحدث. أن نسجل ونصور ونشهد على واقعة تعني أننا ومعارفنا –التي هي معارف عصر مزامنة لما يجري، كلها اسهمت في كتابة تاريخية فيها رؤية وحرارة الآنية ووقوعية الفعل.
في حال مثل هذا لسنا تفسيريين أو معقبين على كتب أو ننقد ما قيل لنا. هنا أيضاً كل يمتلك خطاباً احادياً ومن بعد لنا اشتراك في المزامنة ولنا خصوصية في الفهم وزاوية النظر.
إن الدعوة لأرخنة يومية لما يجري في زماننا، عفواً في أيامنا يوماً يوماً ستصنع تاريخاً حياً وأكثر حضوراً انسانياً. ستبعد الشبحية عن المؤلفات التاريخية البعيدة والموروثة كما عن الحديثة المقبلة.. 
ما جاءت كتابة اليوميات والمذكرات وأدب الرحلات إلا بسبب ادراك ضرورة.  وكانت مقدمة، أو مقدمات لكتابة يومية للتاريخ. ومع حضور اجهزة التسجيل التصوير والنقل السريع للصورة، نكون قد امتلكنا مقدرة واسعة على حفظ الحقائق وعلى حفظ تاريخنا والذي هو سجل عيش الإنسان وتقدمه في الأرض.
ومع هذا «التوالد» الضخم لنقد الأشياء والمؤسسات، والمتابعات المشتركة، يكون جهاز التصفية قد تمكن من استخلاص الحقيقة مما قد يعلق بها ونكون بازاء تاريخ جديد ونزيه وإنساني وقد نجا وتحرر، لا من كل، ولكن من جل التدخلات أو  من تحريفه وإعادة رسم الحدث لما يخدم المصالح أو المعتقدات..