التجريب ومؤسسات الإنتاج

ثقافة وفن
  • 13-10-2021, 08:51
+A -A

 د. سعد عزيز عبد الصاحب 
 

ليصلك المزيد من الأخبار اشترك بقناتنا على التليكرام
يعيش التجريب المسرحي ازدواجية مزمنة ما بين مشروعه الفكري والجمالي وايديولوجيا المؤسسات الانتاجية التي تحيط الفنان المجرب بالرعاية والعناية والمال لغرض الخروج بنتائج ملموسة للبرهنة على الفرضيات التي يفرضها المبدع المسرحي، فمعظم المؤسسات الانتاجية تحاول جاهدة أن تجير المنتج الفني الخارج من المعمل التجريبي لصالحها وعلى وفق ما ترمي اليه من أفكار ورؤى وسياقات ثقافية تنتمي لنسق مغاير عن أهداف التجريب المسرحي الحرة والصافية والتي تهدف الى استنبات أشكال جديدة تخرج عن المألوف والسائد وتنشق عن كل اتجاه وتيار قار وثابت ليظل هذا الصراع وهذه الاشكالية قائمة بين فعل التجريب والمجرب من جهة والمؤسسة الانتاجية التي تحاول أن تدعم هذا الفنان المجرب لأسباب براغماتية (نفعية) تارة وسسيوـ ثقافية تخدم مركزية الدولة وبرامجها تارة أخرى، او ان يستظل المبدع بظلال الحداثة منقوصة القيمة او المنفصلة عن القيمة بحجة التجريب بنسق الفن للفن كما يعبر المفكر المصري (عبد الوهاب المسيري) في أطروحته عن الحداثة وما بعدها حين يحاول المبدع ان ينفصل عن مجتمعه ومشكلاته وعلله الجوهرية ويركن الى ما هو جمالي محض ومجرد من محتواه الاجتماعي والثقافي منطويا على ذاته منكفئا عليها لينأى المبدع المسرحي بنفسه عن نسق عصره الثقافي مقصيا بإرادته عنه، او ان يكون المبدع التجريبي مشغولا بهموم عصره وساعيا للبحث عن الأسلوب الأنجع لتمثيل ايديولوجيا العصر ليكون إبداعيا تابعا لمركزية السلطة التي يعيش في ظلالها إذ يجدها نظاما متعاليا يؤمن بإشاعته وان هويته الفكرية وتجلياته الجمالية مقترنة بذلك النظام الذي أصبح تابعا له وهذا ما سعت اليه المؤسسات الثقافية للانظمة الشمولية التي جعلت من خيال المبدع ومختبره التجريبي صوتا لترسيخ منطلقاتها السياسية، وهذا أيضا ما نجده يتجلى بأنصع صوره في التجارب المسرحية التي انتمت بالكامل لترسيخ قيم (الواقعية الاشتراكية) مثالا ثقافيا يتوجب الاخلاص له وتنفيذ ستراتيجيته الممنهجة، في حين بقي المبدع التجريبي الحر والذي لا يرتضي أن يرتبط فضاؤه الفكري والجمالي بمؤسسة مركزية تفرض أجندتها وسياساتها الثقافية عليه بقي مقصيا مهمشا يبحث عن يوتوبيا بعيدا عن المؤثرات تحوي نزعاته التمردية على سلطة النسق المعاصر في سعيه لجعل الخطاب الجمالي تمثيلا للاحتجاج السياسي والرفض الأبدي لكل أشكال الهيمنة الايديولوجية وأدوات انتاجها القسرية، وحاول مبدعون حقيقيون الانصهار مع التحولات السياسية في بلادهم والشروع بالتجريب على اساس من التماهي الايديولوجي مع الخطاب الجديد لثورة 1917 فهذا المخرج والممثل الروسي الشهير (مايرهولد) يحاول أن يقرأ النظرية الماركسية من منطلقات تجريبية في مسرحه الشرطي فيوظف المفاهيم العلمية لدمجها بمفاهيم الواقعية الاشتراكية فاتخذ من (التايلرية) وهي مفهوم اقتصادي انتاجي محض ليقربه من عمل الممثل في كيفية التعبير الجسدي بأقل عدد من الحركات كما في المعمل حينما يقلل العامل من حركاته الزائدة فإنه يحصل على انتاج أكبر كذلك الممثل فإنه سيعبر عن دوره بأقل عدد من الحركات ويبقى محتفظا بلياقته وطاقته الجسدية الكامنة طوال العرض المسرحي، وحينما اراد (مايرهولد) التمرد على مفاهيم الواقعية الاشتراكية في احترامها للخزين الادبي للامة الروسية من منطلقات تجريبية أخذ يوظب مسرحية المفتش العام لـ (غوغول) على وفق مفاهيمه في الأسلبة والشرطية امتعضت جهة الانتاج المركزية وحاولت عرقلة مختبر مايرهولد التجريبي في أعماله المقبلة لأنه مس الأدب المقدس والمرتبط بالميراث والفولكلور الروسي المحرم ـ من وجهة نظر السلطةـ على القراءة الجمالية والدلالية الجديدة، فسحبت دعمها الحكومي عنه تدريجيا الى ان اعتقلته وأعدم فيما بعد، وكذلك تجربة البولوني (جروتوفسكي) ومختبره وتجاربه المائزة في المسرح الفقير تم سحب الدعم الحكومي عنها لما فيها من أشكال احتجاجية وروحية ناقمة وغاضبة من الأوضاع السائدة في بولونيا ستينيات القرن المنصرم، والاتجاه بمسرحه من العلمية المركزية الى الروحية الحرة المرتبطة بالنسق الصوفي التجريدي المنتمي للانسان ونوازعه الذاتية الخالصة.