رائحة المعنى.. فضاء المقالة الجديدة في دائرة النقد

ثقافة وفن
  • 22-08-2021, 07:48
+A -A

 د.غنام محمد خضر
 

ليصلك المزيد من الأخبار اشترك بقناتنا على التليكرام
يعدّ موضوع المقالة على مستوى تاريخ الجنس الأدبي ونوعه وتقاناته وأدواته وجمالياته من الموضوعات المهمة القابلة للدراسة الأكاديمية، وعلى الرغم من أنّ كثيراً من الدارسين تصدّى لها أكاديمياً ونقدياً إلا أنّ مقاربة النصوص المقالية الحديثة ظلّت يسيرة، ولا شكّ في أنّ المقالة التي يمكن أن نصطلح عليها «المقالة الجديدة» لا بدّ أن تدخل حيّز الدراسة من أوسع أبوابها، وذلك لما تنطوي عليه من أهمية في سياق المفهوم والاصطلاح أولاً، وفي سياق الرؤية التي يمكن أن تنطوي عليها هذه المقالة وتبشّر بها، ومن ثمّ في سياق المنظور المقالي القائم على جدّة الفكرة والعرض
والتركيب والأسلوب.
المقالة الجديدة التي يكتبها محمد صابر عبيد وينشرها في صفحات جريدة «الصباح» منذ أكثر من ثلاثة أعوام، جمعها في كتاب نشرته «دار جليس الزمان» في عمّان/الأردن بأربعة أجزاء بعنوان «رائحة المعنى»، والعنوان يشير في طيّاته إلى طابع الرمزية التي يمكن أن تنطوي عليه المقالات بحيث لا يمكن بلوغ المعنى فيها إلا من خلال رائحتها، رائحة يمكن أن ترى وتلمس وتسمع وتذاق في إطار ما يصطلح عليه «تراسل الحواس»، بمعنى أنّ عنوان المقالات يطرح مجموعة من الأسئلة السيميائية التي تحتاج إلى رصد ودراسة وتفكيك، تكون مفتاحاً أكاديمياً لدراسة هذه المقالات وفحصها وتحليل نماذج بنائها وطبقات تشكيلها.
مقالة محمد صابر عبيد في «رائحة المعنى» تقوم على بنية تركيبية ناضجة من حيث الهيكل البنيوي العام لها، ولا بدّ على هذا النحو من فحصها نقدياً فحصاً شاملاً ابتداءً من طبقة العتبات النصيّة، التي تتناول عتبة العنوان وعتبة الاستهلال وعتبة الخاتمة بوصفها العتبات الثلاث الأبرز في تشكيل المقالة، ومن المناسب الانتباه إلى الأدوات الأساسيّة في بناء مقالات «رائحة المعنى» التي ترتبط أساساً باللغة المقالية، فلغة محمد صابر عبيد النقديّة الشعريّة والشديدة التماسك تظهر بشكل جليّ في مقالاته، وهو كما يبدو يعوّل على شكل اللغة المقالية وفعلها ومقصدها وشدّة تأثيرها في مجتمع التلقّي، ولاسيّما أنّ هذه اللغة تشتبك مع موضوعاتها بطريقة جمالية، حتى تصبح اللغة جزءاً من الموضوع والموضوع جزءاً من اللغة، بما يمنح الدارس فرصة كبيرة للكشف والتحليل والتأويل داخل فضاء بحثيّ سيميائيّ ينبغي أن يكون في أعلى درجات الكفاءة والفهم والاستيعاب، وبما يمكن أن يصل في تحليله للأسلوب المقالي عند محمد صابر عبيد إلى ما يمكن وصفه بالبلاغة المقاليّة.
تتعدّد موضوعات المقالة في «رائحة المعنى» لتشمل كثيراً من الانشغالات الأدبية والثقافية والفكرية والاجتماعية والفلسفية، وهي تنتشر على مساحة الكتاب في تنوّع مدهش يشبه الطريقة المثلى في كتابة الشعر، إذ يلتقط محمد صابر عبيد موضوعات مقالاته الجديدة من أبسط فكرة إلى أعقد فكرة ويتعامل معها جميعاً بأسلوب تعبيريّ واحد، وهو يستعيد في ذلك طريقة الجاحظ، وقد كان يرى الموضوعات مطروحة في الطريق، لكنّها تحتاج إلى من يلتقطها بذكاء ويحررها من إهمالها وتهميشها ويضعها في دائرة الأهميّة والمركز، كي يتكوّن لها جوهر عميق صالح للمتابعة والسجال والتفكير والرهان الثقافي والأدبي والفكري.
مقالات «رائحة المعنى» لمحمد صابر عبيد لو نظرنا اليها في سياق واحد لاكتشفنا أنّها عالجت عشرات الموضوعات في جواهرها الأساسية، وهو ما يجب بحثه وقراءته بدقة وموضوعية يقف الباحث فيها على طبيعة الفكرة المقالية وجذورها، وكيفية إعادة إنتاجها على نحو جديد مختلف، فهو في كلّ مقالة من مقالاته يتناول فكرة معيّنة يحصر جوهرها في العنوان ويحشد في هذا العنوان مجمل الفكرة، ومن ثمّ يشرع في عرض الفكرة ابتداءً من تخومها ومحيطها ودوائرها وظلالها حتّى يصل بؤرتها الجوهرية، لكنّه لا يكتفي بعرض الفكرة وإدامة تفاصيلها وحيثياتها ومنطلقاتها ومرجعياتها وآفاقها، بل يذهب نحو تطوير الفكرة المقاليّة ومناقشتها من جوانبها كافة حتى يشعر القارئ بحالة الإشباع والاكتمال، ولا يكتفي بهذا على مستوى بناء الفكرة المقالية الجديدة بل يجتهد في ابتكار الفكرة المقاليّة بحيث تبدو وكأنه تطرق أوّل مرة، بما يجعل منها مادة تتوفّر على عناصر التشكيل الأدبيّ تعبيراً وتشكيلاً على النحو الذي يمكن وصفها بـ «نصّ أدبيّ»، حاله حال القصيدة والقصّة والمسرحية في قدرته على الإبهار والإفادة في آن.
تنحو مقالات «رائحة المعنى» نحواً أسلوبياً خاصاً شديد العمق والطرافة والفنيّة، إذ يخضع لخبرة محمد صابر عبيد الكتابية على مدى ما يقرب من أربعة عقود بعشرات الكتب ومئات الأبحاث والدراسات وآلاف المقالات، وهي خبرة اعتلت أبلغ مراحل نضجها التعبيريّ الأسلوبيّ في هذه المقالات التي يبدو أنه لم يجد لها سبيلاً في عالمه النقديّ، ولا في عالمه الشعريّ، ولا في عالمه السرديّ، فشاء أن يصرّفها كتابياً بهذه الصيغة الأجناسيّة التي تعيدنا إلى «فنّ المقالة» بصيغة جديدة، وآليّات تعبير جديدة، وأسلوبيّة بلاغيّة وجمالية جديدة، داخل فضاء أدبيّ مقاليّ يتميّز بكثافته وسيولته اللغويّة والصوريّة والمشهديّة، التي تحضر فيها فنون الشعر والسرد والرسم والدراما والسينما وغيرها، داخل رؤية إبداعية أدبية وفكرية وفلسفية تكتظّ بكل ما هو مثير ولافت ومفيد وخصب ومغني من بداية المقالة حتّى نهايتها.