سلطةُ الشائعة

ثقافة وفن
  • 16-08-2021, 07:41
+A -A

محمد صابر عبيد
 

ليصلك المزيد من الأخبار اشترك بقناتنا على التليكرام
تعود فكرة الشائعة إلى أقدم نشأة بشريّة في الكون لأنّها تفسّر على نحوٍ ما رغبة الإنسان الدائمة في السرد بصرف النظر عن حساسيّة الموضوع، وبما أنّ الشائعة تقوم على نوعٍ خاصٍّ من صناعة الخبر وسرديّته بهدف إثارة مشكلات معيّنة في الما حول لأغراض مختلفة، وبما أنّ هذه الأغراض في الأغلب الأعم ذات طبيعة سلبيّة شاذّة فقد اكتسبت الشائعة هذه الصفة التي التصقت بها، وصارت الشائعة قرين الحيلة والدجل والتخريب والتشويه والأذى دفاعاً عن الخطأ والوهم والسوء وفساد الضمير، بكلّ ما ينطوي عليه ذلك من اندفاع مستميت وراء الظلال والحواشي والحدود المهملة والتفاصيل الهامشيّة لتحقيق مقاصد 
غير شريفة، فانتهت الفكرة عند عتبة هذا المعنى على نحو 
حاسم ونهائيّ تقريباً بحيث أنجزتْ قوّة تداوليّة عالية في هذا السياق.
تحمل الشائعة قوّة هائلة في الانتشار والتشظّي والتعدّد والنموّ والتأثير والتداول في الأوساط الاجتماعيّة كافّة تقريباً، لذا فقد أولتها الثقافات المتنوّعة أهميّة كبيرة ووظّفتها في سياقات متباينة لصالح أفكار وقيم وممارسات معيّنة، والشائعة بطبيعتها تنشأ وتتطوّر وتنتشر وتؤثّر على نحو شديد الخطورة حين يهيمن قدر من العماء الثقافيّ على الأشياء، في جوهرها وما حولها وعلى ضفافها، فهي تنضج عادةً وتتعدّد وتتحوّل في أوساط هشّة على قدرٍ بسيط من الوعي حين تنحاز للخرافة على حساب العلم والمعرفة.
تعتمد الشائعة في تموين سلطتها على سرديّة الكذب في صناعة الخبر بالدرجة الأولى، والسعي إلى تحويل هذا الكذب إلى حقيقة دامغة لا تكلّف من يؤمن بها مغبّة التفكير والتحليل والتفكيك، فالمتلقّي السلبيّ يأخذ الخبر على عِلّاته باحتفاء شديد ويسوّقه ويدافع عنه بوصفه حقيقة ثابتة تنال أعلى درجة من التقديس والصيرورة الميدانيّة، ولعلّ وزير الدعاية الهتلريّ «غوبلز» يمثّل صورة حيّة لاعتماد فكرة الشائعة أساساً في العمل الإعلاميّ الخادم للنازيّة، إذ كانت نظريته تنهض على إطلاق الكذبة فإنْ صدّقها كلّ الناس فهو رابح، وإن صدّقها نصف الناس فهو رابح، وإن صدّقها ربع الناس فهو رابح، وحتّى إن لم يصدّقها أحد فقد نجح في إثارة البلبلة والشكوك والالتباس والحيرة في أذهان الناس، على النحو الذي يضع المبادرة في يده دائماً لتنفيذ ما يريد مكاناً وزمناً وحدثاً.
تساعد حالة العماء والغباء والتخلّف والنقص والحسد والغيرة والمرض كثيراً في تشجيع فايروسات الشائعة على الانتشار بسرعة عجيبة، فسكّان هذه «الحالة» مستعدّون على الدوام لتقديم أجسادهم وعقولهم وشرفهم وكلّ ما يملكون لتمرير الشائعات وتضخيمها، من غير أن يكلّفوا أذهانهم المريضة أدنى درجات التفكير في جدواها لهم، فهم مطايا لغيرهم يقدّمون ظهورهم مراكب يعتليها آخرون لتحقيق غايات ومقاصد لا علاقة لهم بها البتةَ، ويظهرون في الصورة العامة على أنّهم صانعو الخبر بمعرفة واطلاع وخبرة، لكنّهم في حقيقة الأمر لا يعرفون من الخبر الذي يتكفّلون بإذاعته سوى ما أملاه عليهم أولئك الذين يمتطون ظهورهم، ليخسروا مرّتين، الأولى من الأعلى والثانية من الأسفل، وتتحقّق فيهم صفة الضحيّة وقد اكتفتْ بنقل الشائعة بأمانة وصارت عند الطرفين أشبه بمنديل تنظيف قام بوظيفته 
على أكمل وجه وانتهى إلى مكبّ النفايات.
للشائعة عادةً طرفان أساسان، الطرف الأوّل هو منشئ الشائعة مثل «غوبلز» وزير الدعاية النازية، والطرف الثاني عدوّ النازية الإنسانيّ والثقافيّ والفكريّ، وهما في الغالب طرفان متكافئان يخوضان صراعاً حضارياً كبيراً، والكذبة التي يعتمدها غوبلز أداة مركزيّة للشائعة لا بدّ لها من مطيّة تحملها وتوصلها إلى المكان المناسب في الوقت المناسب، وكلّما كانت هذه المطيّة بلا وعي ولا ضمير ولا ثقافة ولا أصل واضح ولا مرجع معروف، فإنّ هذا يساعد كثيراً في امتطائها بسهولة وتحميلها الحمولات المطلوبة لإنجاز أغراض مريضة تستهدف الطرف الثاني، وهي أغراض تتقصّد الإيهام وبوسعها أن تحقّق مقاصد سريعة في لحظات معيّنة لكنّها ما تلبث أن تُفتضَح، وحينها لا يخسر منشئها شيئاً فقد أثار اللغط والتشويه، مثلما لا يخسر المقصود شيئاً أيضاً عند من يعرفونه جيداً، وتبقى الضحيّة هي المطيّة التي حملت الشائعة على غير معرفة وعلى غير وعيٍّ لنقصٍ في الأخلاق والمعرفة، فتعرّتْ بعد أن انتهت مهمّتها وتمّ كنسها خارج ميدان اللعبة كي تعود إلى أصلها 
ومرجعها.
لا سلطة للشائعة إلّا على ضعاف النفوس والعقول والنيّات والضمائر والأخلاق والشرف والوعي والتجربة والمعرفة والإحساس بالنور والجمال، لأنّ العقل بطبيعته لا يقبل الخبر الذي يرد ساحته إلّا بعد طول تأمل ومناقشة وتحليل وتفسير، ومن لا يفعل ذلك لا عقل له بالتأكيد، وسلطة الشائعة تنتخب من لا عقل له كي تروّج في ساحته ما تريد بوصفه وسطاً مثالياً للترويج، ولأنّ هؤلاء هم الغالبيّة والأكثريّة الكبرى للأسف في المجتمع فإنّ سلطة الشائعة تمثّل هيمنة شبه مطلقة على مقدّراته، مع أنّ الشائعة تحوّلت لفرط هذه الهيمنة إلى علم يدرّس في جامعات كثيرة من طرف علاقتها بالإعلام والأمن والمخابرات وغيرها، وتوسّعت مقاربتها كي تتدخّل في أنساق أخرى تتجاوز المفهوم الضيّق الذي تتمتّع به في وسطٍ غبيٍّ يقدّسها.