تطور الأدب بتطور الأسئلة

ثقافة وفن
  • 19-12-2020, 05:58
+A -A


ياسين طه حافظ
مثلما يهتم النقد بتطور الأسلوب، هو يهتم ايضا بالاسئلة التي تطرحها الكتابات بذلك الأسلوب، فليس «الإخبار» بما يفرح أو يضحك أو يثير ويبكي، هو المطلوب دائما، العمل المهم هو ذلك الذي يحمل أو يثير اسئلة جديدة 
أو الذي يجدد الاسئلة، إثارة أو طرح الاسئلة مهمة مركزية للفنون كلها، وإلا استحالت لهواً وإخباراً، عما كان، أي بعض من التاريخ الاجتماعي لحساسية الفرد وكاميرا رؤيته.
بتطور المعمل الأدبي، وهذا واضح أكثر في «الرواية»، تتطور الاسئلة ومستواها فالقرن التاسع عشر شهد وترك لنا، اسئلة الحياة اليومية والنظام الاجتماعي، وهذا يعني ضمناً اكتظاظ نزعات التغيير من أجل مدنية جديدة. من بعد وجدنا عبقريات نحترمها، راحت تتخفى باحثة تحاول أن تجد سعادتها وخلاصها بالتفاصيل، تفاصل الصالونات، الازياء، العطور، اللذاذات والمتع الشخصية (مارسيل بروست مثلاً) هو نوع من الأدب الارستقراطي واضح البعد والتعالي عن صراعات الشارع والسوق، ودراماه الصغيرة تأتي من تلك التقاطعات من دونها، من مكدرات أو مثيرات توق أو تنافس أو شبق. صرنا بعيداً عن الملاحم وروايات الاشتباك الكبيرة وحصلت محاولة هروب مهذب من اللا حل والاقرار باللا جدوى.
معنى هذا أن اهتمامات جديدة، مخاضات، شغلت مساحة من أدب الانتقال من غنى وصخب التاسع عشر إلى «معقوليات» إلى اعادة الاسئلة، في القرن العشرين، الكتابة في العشرين أكثر صراحة: فليست حدثا وكانَ، بل لماذا حدث هذا أو لماذا كان اصلاً؟ وماذا عن أو وراء، عبثية الحدث الكوني من خلال الإنساني الفردي، أو من خلال تفاصيل حياته؟
لكن الحياة لم تترك الكتّاب ومزاجهم البطيء، فقد تطورت قضايا «اليومية» واتسعت الدهشة من الاكتشافات الجديدة، وقبل هذين وبينهما، توسعت وحدثت تطورات واسعة في الاقتصاد: اندماج – رساميل واندماج شركات وتغيير وملاحقة الاحتياج اليومي- الاستهلاك، هذه كلها أوجدت علاقات اجتماعية جديدة واشتباكات جديدة وأجواء كتابية جديدة، وما يبدو من سكون مؤقت أو هدوء أو يأس من الوصول إلى حل، هو في حقيقته بحث صامت في الأرض التي خلفناها وراءنا، أي في مناطق التفكير التي كانت والتي هي اليوم من دون احترامنا، تعالَيْنا عليها. صار التفكير في مخفيات الذات، في احتياجاتها البعيدة، المضمرة والمهملة! وهذه اختلطت أو وجدت صلة بالواقع المفجع، بالمجازر والتمردات والاحباطات المستمرة وباللا جدوى الأقدم زمناً، الجو الاجتماعي عام وواسع ولكن للشخوص محنتهم الشخصية! صار الحدث الاجتماعي إطاراً وليس هدفاَ! الابطال الجدد هم عشاق مرتبكون أو محبطون، متمردون أو نازحون هاربون أو متعاطو المخدرات، أو سياسيون خائبون أو منشقون أو منشغلون بنزوع ديني أو مناطقي أو خصوم شركات، أو منسحبون من مشاريع أو جمعيات أو عصابات أو عائدون من المدينة إلى الله والطبيعة. فهل لا فرصة للتسامي أم هو الادراك العميق للاجدوى والاصطدام بـ «السُدى»؟ عديد من الروايات والقصائد الجادة، اهتمت، ولا تزال تهتم، بمفردات يومية من نمط آخر من ذلك ما نجده واضحاً في الابطال الممتَحنين أو اللا مبالين أو المأساويين، من المنتحرين أو القتلة أو من المطلِّقين أو المطلَّقين والعابثين، ومن المعتزلين أو المدمنين. هذه المرحلة بدأت من همغوي ودوس باسوس وارويل وساغان واتضحت بشكل ارقى بعقلانية متأملة في كتابات سارتر ودبوفوار.
وفي هذه المرحلة متداخلة الحدود والمدارس، صرنا نرى صراعات لا بين الأنا والخارج ولكن داخل الأنا نفسها. الذات هي الميدان المزدحم بالصراع. ناتج ذلك عادة انقطاعات في استمرارية الحب، الولاء، والصراع بين الرضا بالعمل أو رفضه، وأكثر ما تعزى له هو أن علاقات قديمة تقف بوجه الجديدة وتعكرها. يزيد من ذلك التجدد والتغير السريع للظروف. إذاً، هو الاشتباك غير المعلن مع «الضد في الفوضى» فنحن نشتبك معه ولا نفترق عنه!
وهنا يندر المنتصر حقاً أو الخاسر حقاً فلا يخلو منتصر من كآبة أو أسف أو ندم على شيء. ولا تخلو خسارة من أمجاد أو مكاسب صحبت حدوثَها أو سبقتها. الشخصية، في حاليها، مدينة بشيء: قيمة اخلاقية أو حبيبة أو مال أو كرامة أو مبادئ. الانشغال الظاهر، هو غطاء الحياة الزائف على الحقيقة أو على الحال، التي يواجهها جوهرنا الإنساني، فليس سهلاً حماية الجوهر في المنافسة والفوضى. 
ومع عديد الروايات التي تصور والقصائد المثقلة بهذا الهم، فإن الأوساط المعنية، الأكاديمية والدراسية، تحتفي بما يعيد فهم الظواهر أو يعيد طرح الاسئلة عما تحدثنا عنه وبما يجدد أسلوب التعبير عنها.
لذا صار الاحتفاء لا بالحس المشترك ولكن بالحس المنفرد، بالذي انتبه، الذي احتج، انتفض، تمرد، إنشق عن أو هاجر. والحاجة صارت لا إلى الدوغمائية بل إلى التفكير النقدي، إلى لحظة التفكير النقدي!
وهي بالتاكيد نقطة اختلاف عن العام والسائد، بل نقطة تطور من العام والمألوف المتبنّى أو المحكومين به. هو بعض عن صراع الإنسان للخلاص أو من أجل حياة أخرى. أدبياً، البحث عن إسلوب جديد للتعبير عن اسئلة جديدة.