معركة دائمة لا ترى

ثقافة وفن
  • 28-11-2020, 05:25
+A -A
ياسين طه حافظ
هذا عنوان يبدو افتعالا فلسفياً أو محاولة انشغال بما لا يتراءى كثيراً، لكنه يتضح للجميع إذا صفت الرؤية والخلوة، أن هناك صراعاً يشهده زمننا، وربما بقسوة، بين رؤيتين متناقضتين: رؤية الذين يؤمنون بوجود قيم أزلية ملزمة للجميع وأنها ليست بعيدة عن الحراك اليومي والسعي للعيش أو للحضور. 
وهذه حين تبدو بعيدة عن الرؤية أو عن إدراك الناس، فسبب ذلك هو النقص في المقدرة الأخلاقية أو الفكرية أو المادية الضرورية، هذا ما قالت به الكتب وليس هو من ابتداعنا،. النقص في 
المقدرة الأخلاقية أو الفكرية أو المادية، يعني عدم القدرة على إيجاد الصلة بين وجود تلك القيم وحضور فعلها عبر الثقافة وظروف العيش. 
إذاً، نحن لا نقول تجريداً، ولكن قولنا يعتمد أسساً عملية ملموسة في جانب مهم منها.
الرؤية الثانية لا تبالي بإيمان مثل هذا أو قناعة مثل تلك، بل تتعامل مع الواقع واقعاً وضمن ظروف اقتصادية وجغرافية سائدة، لذلك أجرى أصحابها محاولات للتنظيم العقلاني للحياة والعلاقات بين الناس، فانتقلت من التوحد بأداء الطقوس والالتزام بالوصايا التي جاءت بها الأديان إلى طقوس التكافل الاجتماعي، التي رسمتها الأعراف الجديدة وإلى صراع الطبقات المتمايزة، وهو تحول صعب ومهم لإيجاد تناسق وانتظام عيش جديد، لكن كانت على هذا مآخذ من الضد لتسفيهه ومن مفكرين معتدلين، بأنه مثلما أراد خيراً، سبب ضرراً فادحاً إذ شوه علاقات الناس وأربكها بما فرض عليها، وأن المستقبل على مبعدة والحاضر في البيت والمعمل والساحة والسوق.
هنا صرنا أمام الخيار الصعب، أي في مرحلة التقاطعات. وبذلك كما يقول الطرف الآخر حيل بين الناس 
وبين التنظيم العقلاني ذي الجانب الأخلاقي.
بين الرؤيتين كانت العلوم تقدم حلولاً، فحصل تقدم في حياة الناس، وحصلت أنواع من الألفة ساعدت على وجودها المخترعات الجديدة، وصرنا نرى الآلات والأجهزة وأنواع المبتكرات الصناعية في حقول الحياة كلها، تتجاوز الخلافات والتقاطعات، غير عابئة بها أصلاً. وهي، لا سواها، قامت بتوحيد الناس في سياقات جديدة من المناسبات وفي أحوال العمل أو الاستراحة أو التوجه، لتطوير شؤونهم الحياتية ورفع مستواها، فهل هذا يعني تعطيل تلكما النظريتين أو الرؤيتين لنعتمد العلم وحده يتولى الحل وبناء المستقبل؟ 
لا يبدو هذا صحيحاً؛ لأنَّ العقل البشري لا يتعطل في جانب من عالمه، وهو يظل يعمل في كل الاتجاهات ومنها حضور الرؤيتين، بل أن حضور الرؤيتين كان ضرورياً لتطور العلوم. 
أما مسألة التنظيم في وفاق شامل، فهي بين من يرتضي بها وبين من لا يراها في صالح المجتمعات البشرية، معتمدين في ذلك على أن حركات الناس وحيويتهم الأخلاقية والفكرية، تعتمد على تفاوتاتهم في الرؤية والفروض والإرادات والمطامح، وأن هذه الاختلافات بين الناس تبعدهم عن اللا إنسانية الراكدة أو المُسْتلَبة، فالخلافات الكبيرة وتفرعاتها وتفرعات الأخيرة، جعلتنا في خضم حركة الحياة. ولهذا أو بسبب حيوية عصرنا، حصلنا على (أنواع) من الاشتراكية و(أنواع) من النظريات الأخلاقية وتزايدت تفاسير وأفهام النصوص الدينية وتفتحت الأبصار لمزيد من الاجتهادات. والناس يستطيعون أن يعيشوا حياة سليمة، شبه متكاملة في مجتمعات ذوات بنى منفتحة، التنوع فيها مقبول ولا يسمح لأحد أن يمنع ذلك.
لكن في هذا المطمح ما يسبب انزلاقة إلى اليوتوبيا ويحيلنا ثانية إلى هرطقة عن الإصلاح والوصول إلى ما تتمناه الناس في حياتها اليومية وهي تصعب وتتعقد يوماً بعد يوم.
إذاً، ليكن الطلب واضحاً وعملياً: وهو السماح لحركة الفكر والتعبير وتعارض الأفكار ضمن قوانين أخلاقية تحول دون التخريب والعنف. فالخضوع لأيديولوجية واحدة بالقوة، مهما كانت عقلانية 
هذه الايديولوجية، أو كان مخيالها، تحرم بعض الناس من حقوقهم وتوقف حيوية التنوع الذي تحدثنا عنه، افتقاد التنوع في المجالات كلها ينتهي بها إلى نهايات جامدة وعند حدود تطور محددة. 
كان يمكن أن يستمر التطور، لولا فرض التماثل واستمرار وتزايد الغاء الحيوية، تسوية المتنوعات قسراً ليس في صالح الانسجام والعدالة، هو سحق للحياة نفسها وحرمانها من ديناميتها 
المبدعة.
الرؤيتان اللتان تحدثنا عنهما هما اللتان تحكمان الناس اليوم، وكلاهما يقاوم بينما الحياة من خلالهما تقدم رؤيتها العملية وانجازاتها المفاجئة!