جنائن معلقة من مهملات الحياة وشظاياها المبعثرة

ثقافة وفن
  • 17-08-2020, 05:59
+A -A

ليصلك المزيد من الأخبار اشترك بقناتنا على التليكرام
بغداد-واع

للشاعر فوزي السعد ست مجاميع شعرية هي الفراشات تقتحم الحدائق" 1980، و" نخلة النخل سلاما"1987، و"توأم الفراشة"2002، و"الريشة والطائر"2009، و"ايقاظ البذور"2013. ثم مجموعته الجديدة الصادرة عام 2019 "جنائن غير معلقة" اصدار اتحاد الادباء والكتاب في البصرة على نفقة شركة اسيا سيل للاتصالات.
وللشاعر فوزي السعد تاريخ طويل في كتابة القصيدة الحديثة وزنا ونثرا، وله علاقة وثيقة مع اللغة العربية، مدرسا لها في مدارس البصرة الإعدادية منذ نصف قرن، مما يضع شعره في ميزان مختلف ونظرة اكثر شمولا وتأملا.
في مجموعته الجديدة (جنائن غير معلقة) يكرس الشاعر ثيمه ولغته الشعرية وعالمه الشعري الذي اغترف منه معظم قصائدة المنجزة، وهو مؤشر واع لوجهة نظر الشاعر تجاه عالم الطبيعة والانسان الذي بثَّ كثيرا من تفاصيله في إنجازاته السابقة، ويتضح ذلك من استثماره لغة تقترب كثيرا من اللغة المحكية، وتأثيث عالمه بمجازات من قارعة الطريق وفضاء الطبيعة ومهملات الحياة وشظاياها الجامدة التي لا تجلب الانتباه ولا تشكل ظاهرة لافتة للنظر ولكن الشاعر بالتفاتاته الذكية واضاءة المهمل منها يرفع رتبة هذه المهملات الى مستوى حياة متحركة وناطقة تضعها ندا مع عالم الاحياء المتناغم. إن رفع الهامشي والمهمل والتآلف من أثر الاستعمال، الى مستوى الناطق والمستنكر للحال التي آل اليه مصيره، واستثمار ذاكرته لإعادة دورة حياته الأولى قبل استهلاكه، هو نوع من قراءة وتمعن في دورة الحياة التي يمر بها كل الكائنات حية او جامدة وتنتهي الى الزوال .
تضم هذه المجموعة 47 قصيدة موزونة او قصيدة نثر، ولكن الشاعر استثمر أوزانا أقرب للنثر لتنسجم مع تأملاته التي اتخذت الجملة الأسمية او شبه الجملة أساسا لها، واستثمرت افعالا غير متحركة يغلب عليها السكون  مثل تمنيت، يمرح، يؤوب، يجيل، تمد، تتحرك في قفص، صرخت، وهي مجموعة أفعال تعتني بإضاءة المشهد الشعري ليعبر عن وجهة نظر خبرت تفاصيل الحياة وصولا الى انعكاساتها في النفس الإنسانية بوصفها تجربة مكتملة منذ بداياتها، وذات نهايات حتمية بالموت والزوال، وكل ذلك يعد تكريسا للمألوف ومثاله المعروف في الجملة الشعرية التي اتضحت في قصيدته (فاطمة) التي اعتنت بالاحتفاء بميلادها بوصفه (صوت الهزارات، وسروب السنونوات، وهديل الحمام، واشتعال القداح في التفاح) في تجسيد الفرح واحتفاء بالحياة، لكن النهاية تأتي لتلغي كل هذا الألق والفرح وتمحو حتى آثاره في نفس المتلقي ،وأنتِ رغم أنف الأماني تكبرين / والى مصيرك المجهول سوف تغادرين.
يتكرر ذلك في قصائد كثيرة نشير اليها: (الغابة والجندب، الموت في مرآة، الضفدعة والعقرب، أمنيات نخلة، جواب، أحفاد المدن، وقصيدة تفاحة نيوتن التي تخاطب الآخرين بيأس وتشاؤم: فإلامَ نبقى بأغصاننا عالقين 
نقاوم فعل الجاذبية والسقوط ...) في قصائد أخرى تنهض الذات وترفض ما خطط لها من موت وتقاوم أسباب اندثارها ومحو اثرها في الحياة بمجازات وصور ومشاهد تبنى بطريقة مبتكرة، تشي بتاريخ طويل وتمكن عالٍ في كتابة الشعر، نحاول التقاط بعضها برهانا على ذلك.
في قصيدة (حدائق الرماد) يستعير الشاعر فكرة الرماد بوصفه ناتجا لا يصلح لشيء ويعيد تفاصيل ذاكرته نحو حياته الأولى فهو: (خشب في مسيرة باب، سرير يعتلي هدأتي النائمون، قارب عاشق يتهادى على صفحة الماء، أنا شناشيل قبعات ملائكة مزركشة بالزجاج ص37) نشير الى الصورة الأخيرة الباذخة.
وفي قصيدة (جنائن غير معلقة) التي اعتلت صفحة العنوان، يرسم جنائن من مقتنيات الطبيعة ومباهجها وأشكالها المترفة، فأرائكها من (ريش الطاووس، شراشفها مطرزة برسوم لأفيلة الهندوس، والفراشات تهرب من قماش الشراشف كي تحط على آنية الزهور) وفي نهاية القصيدة تصرح الذات الصانعة لها: أنا أفقر الفقراء/ لكني في مملكة الخيال أغنى الأغنياء أكون.
وهي لا تنسخ وجودها من جنائن بابل المعلقة المصنوعة من تعب الآخرين وكدهم كي تكون سكنا للمتسلطين والطغاة، والجنائن المعلقة  على متانتها وقوة بنائها على وفق كتب التاريخ فإنها في هذه المجموعة أصبحت (جنائز معلقة، جنائز فوق جنائز تعلو بألوف البابليين الذين استشهدوا ص64).
وفي قصيدة (تصادم المدارات) خطاب الى الاخر (الحبيب) فيه دعوة للانسلاخ من عبودية الجسد وقيود المألوف من الحياة تجاه عالم التكوين المدهش والجديد بفاعلية فعل الأمر ( كوني) (كي أعيد ترتيب حباتك المنفرطة ص50): كوني وردة (منبع الجمال والعطور)، ديمة (وابرقي، وارعدي، وامطري)، نجمة (واهبطي، يا دفقة الضوء في مداري) لينتهي هذا النشيد بإعلاء صوت الأنا المنشدة (هي أحلام فقست بيوضها وطارت بأجنحة من ورق ص53). وفي قصيدة (طائر الغابات) يستثمر الشاعر صوت الطائر المحبوس في قفصه وينطقه محتجا على وجوده هذا (خذوا فردوسكم الموعود وأعيدوا جهنم غابتي المفقودة ص14) وفي (أكذوبة الهدهد) ينطق الهدهد بحقيقة وجوده طيرا كسائر الطيور لا يتميز عليها بأية صفة او قدرات خارقة راكمتها أساطير الأولين وأصبحت حقيقة من حقائق الحياة، ثم يعدد ما لا يملك ( يغير الأجنة في الارحام، يشفي الأكمه والأبرص والأحوص، يزيل الوقر من الأذان، ومن عظام ساعده تناقل الفرسان نقشا على مقابض سيوفهم ص24)، ليقرر (انني طائر بائس فقير جوع بجناحين وراء لقمة ضائعة أطير) ليرمي تاج الأمير، وينكر بريقا خلبا وزيف المعجزات ومملكة تيجانها من عظام ليصبح: ريشة حرة في جناح / ساقاي على الأرض وموطني الرياح.
إن رفع الهامشي والمهمل والمستهلك يهدف الى إضاءة وجهة نظر متنحية عن السائد من الأعراف التي تكرس السلطة والهيمنة ورفع رتبتها يعني تعمدا يلغي الصمت والصوت المنحسر، ويعلي صوت الذوات المهملة بحرية القول والتعبير بالشكوى او السخرية او الفخر بنفسها ليبقى بريقها خاطفا للبصر اثناء موته او أفوله حين يخلد نفسه في ذكرى وموقف ونبرة مختلفة عن السائد، وبهذا المعنى فإن هذه الثيم تستجيب لفكرة التشظي وعدم التحديد والابتعاد عن فكرة التمركز مما يجعلها قريبة من أفكار ما بعد الحداثة التي تعمل على تقنيات التفتيت وصعود الهامش وإذابة كل معنى محدد وجاهز، لكن ما ينقصها في هذه المجموعة الشعرية لتلتحق بأفكار وتوجهات ما بعد الحداثة  لغتها لتي لا تستجيب لفوضى وتداعيات التشظي والتفتيت، وتبقى تراوح بوصفها لغة المنطق والبرهان لها قدرة على (تمثيل) معنى دال من هذه المهملات والشظايا.
إن عنوانات مثل (شيخوخة، مئذنة، مومس البحارة، معضلة حمار الزرد، نهاية حذاء.) وغيرها تستجيب لمنطق التشظي والتفتيت، لكنها استثمرت هنا بوصفها عينات للمناشدة او الهجاء او الشكوى من الإهمال، وليست عينات متمردة ضد التمركز والسلطة المطلقة، بلهجة يغلب عليها الغضب والاحتجاج بديلا للمناشدة وطلب الانصاف والعدل في المعاملة التي لا تؤثر ولا تجرح.
على لسان المئذنة ترد الشكوى من الإهمال: أوصلت أصواتهم أما أنا فمن يسمع صوتي ص 20/ ويردد الحذاء الذي استهلك حكمة تقول: أتيقن أن الدائس لا يعيد هيبة المداس.
نرى أخيرا أن الاستجابة لنزعة التهميش والتشظية واضاءة الاجزاء الصغيرة، في الكتابة الشعرية يحتاج الى عينين ( تبصران الشيء خلف الجدار) وأذنين (تميزان بين صفير البلابل ونقيق الضفادع ) كما اشار الشاعر في قصيدته (رسالة الى رامبو) وهو يخاطبه مستذكرا ايام التمرد والتخطي: أيها المارق كالشهاب يا رفيق صباي المشاكس/ يا موقظ البذور في قصائدي، لكنه الآن يقف متأملا يكثف معاناة ثقل العمر والاحداث على كاهله فيرى نفسه وقد تعبت: فمي ما عاد يرسم فوق الطرقات/ أناشيده الرافضة/ و/ سمائي تلوثت بالوحل والهموم والأحزان.