بغداد- واع
حوار: أحمد سميسم
تصوير: سجاد رعد
لامست أناملها الكتابة منذ بواكير نشأتها الأولى ، لتجد نفسها مزروعة ما بين الكتب والجرائد والمجلات تلك التي كان لا يخلو منزلها من رائحة الورق وعبير أحبارها، ناقدة سينمائية وكاتبة وصحفية استطاعت أن تمسك أكثر من تفاحة بيد واحدة بكل جدارة ومهارة، وبسبب حبها للكتابة انطلقت بأفق خيالها نحو عوالم إبداعية شتى فشقت طريقها لتصطاد الحروف بسنارة قلمها الذي لم ينجرف نحو السطحية أو المجاملة قط، كان تواجدها في بغداد لحضور مهرجان بغداد السينمائي حلمها المنتظر الذي طال انتظاره فتحقق فكانت لها مشاركة مميزة في المهرجان عبر فيلمها (شارع شامبليون) للمخرجة أسماء إبراهيم الذي أثار إعجاب الحاضرين.
الناقدة الفنية المصرية "ناهد صلاح" كانت في ضيافة (وكالة الأنباء العراقية) (واع) أثناء تواجدها في بغداد فكان معها هذا الحوار..
ليصلك المزيد من الأخبار اشترك بقناتنا على التليكرام
* في البدء النقد حرفة أم موهبة أم علم؟
- ما هذا السؤال الفخ...؟! نعم إنه فخ كبير، لأنه ملتبس ومُربك، قد يؤدي إلى نوع من الحيرة وربما يصنع بعض التشوش، إذا لم نتأمله برَوِّيَة، إذا لم نحاول استبصار مفهوم النقد ومعاييره وأحكامه ومراحله من التفسير الذي يُوضح المضمون والمعنى، إلى التحليل الذي يشرح أسلوب العمل في تقديمه للفكرة، ثم التقويم أو التقييم الذي يقدم حكما على العمل، وفقاً لمناهج وأدوات مختلفة، السؤال كما مفهوم النقد يطرح إشكالية كبيرة تواجه النقاد والحركة النقدية، ويجعلنا ندرك أن النقد ليس تشخيصا للعيوب فقط، بل يستنطق العمل الفني ويفككه قبل أن يحكم عليه، وهذه عملية ليست هينة وإنما تحتاج إلى جُهد ذهنيٌّ وتواصل نفسي من الناقد مع العمل الفني بكل مستوياته الجمالية شكلاً ومضموناً من دون إهمال السياق الاجتماعي والمعطيات الذاتية وعلاقتها بالمحيط الخارجي وظروف إنتاج العمل، فهذه النقطة بالذات تصل بنا إلى أن المبدع حر في إبداعه، لكن الحرية ليست مطلقة، وأيضا يكون الناقد ملتزماً بقواعد يطبقها.
وأضافت: الشائع أن الكتابة موهبة، إن هذا الكلام صحيح لكنه منقوص إذا لم يمتلك الناقد درجات من المثابرة والدأب والتدريب بجوار موهبته في الكتابة والتأمل والتقاط التفاصيل. يتفق جميع المفكرين وفلاسفة الفن وحتى علماء النفس على أن الموهبة حالة فطرية إنسانية، لكنها تتطوَّر بفعل التربية والتعليم والظروف الاجتماعية والبيئية المحيطة بها. وأنا من واقع تجربتي وقناعتي أؤمن بذلك الرأي، فالتراكم التاريخي الفني والمعرفي والثقافي الذي يوفره المجتمع يدعم التطوُّر ويُنمي الموهبة.
وتابعت: من هذا المنظور أرى أن النقد حرفة وموهبة وعلم، إنه الهامش الذي يحتويهم جميعا. النقد اختيار فيه قدر من الذاتي والشخصي، كمية العناء في مهنة النقد لا يدركها إلا من يمارسها، كذلك فإن المتعة في مُزَاوَلَة النقد لا يحظى بها بطبيعة الحال إلا من يتعاطى معها، والنقد عموما صنعة تعتبر من المهن القليلة التي تعتمد على المزاج. ثمة محترفون وصلوا إلى درجة عالية من الاحتراف حتى أنهم يكتبون في أي مكان، سأضرب لك مثلًا، كاتب وناقد مهم مثل رجاء النقاش كان يكتب مقاله وسط صخب الناس وتجمعاتهم، لم يمنعه الضجيج والزحام من الكتابة الرصينة والتحليل العميق، بما قد يثير الدهشة والتساؤلات عن كيفية تمكنه من ذلك، بينما ناقد آخر قدير وله بصمته المميزة مثل كمال رمزي يكتب في أجواء مختلفة، تكون على الأغلب أكثر هدوءاً بما يعينه على التأمل واختيار مفردات الكتابة بدقة وحرص. وعلى أي حال فإن الدور المحوري للنقد إثرائي وضروري، ويصب بكل مستوياته في زوايا الحرفة والموهبة والعلم.
* كيف اتجهت بوصلتك نحو عالم النقد السينمائي والكتابة حدثينا؟
- في طفولتي كانت عيناي قد تعلمت أن تسبق شفتاي إلى أي كلمة مكتوبة، فمنذ تعلمت القراءة كنت أصطاد الحروف وأنشغل بإعادة تركيبها، أتابعها على مهل كأنني أختزنها.. كلمة على علبة سجائر أبي وصحيفته وعناوين كُتبه والمصحف الكبير على المنضدة الصغيرة التي تتوسط غرفة المعيشة، زجاجات الأدوية، الملصقات على الثلاجة، أوراق الجرائد المقصوصة على هيئة مثلثات التي كانت جدتي تفرشها في الدولاب الزجاجي وترص عليها بعناية الأطباق والأكواب. إدراكي البصري سبق إدراكي المعرفي وأشعل خيالي، فكنت أتصور حكايات وراء الكلمات وأتخيل شخوصها وكبرت لعبة الحروف، فكنت أقرأ الكلمات بحروف مقلوبة وبالتالي أقلب معها الحكايات، أتخيل النهاية أولاً ثم أسرد التفاصيل، بالضبط مثل الأفلام التي تبدأ بالمشهد الرئيس أو الحالي وبعده تعود بنا إلى فلاش باك، كما اعتادت أمي أن تأخذنا في رحلة فلاش باك وتُلون أمسياتنا بحكايات طفولتها وحين تأتي عند سينما سعودي كانت تتوقف كثيرا.. سينما سعودي كانت صالة العرض الوحيدة في "طوخ" المدينة الصغيرة التي تتبعها قريتنا، كان يمتلكها جد الفنان فتحي عبد الوهاب وكانت واحدة من دور العرض الخاصة التي انتشرت بعد ثورة يوليو في الأقاليم والريف والأحياء الشعبية داخل المدن. ذهبت أمي إلى سينما سعودي وهي صغيرة مرارا برفقة جدها الذي حرص على ألا يفوته أي فيلم، بنفس درجة حرصه على حضور حفلات أم كلثوم قدر الإمكان. كانت أمي تستعد لهذا اليوم الذي تشاهد فيه شخوصا مختلفين يتحركون على الشاشة غير الموجودين في حياتها وتتابع قصص وروايات تقمصتها فيما بعد، ثم تقمصتني أنا أيضا التي لم أشاهد سينما سعودي على الإطلاق، فالزمن تغير نسقه و"اتشقلب" حاله على طريقة نظرية الحراك الاجتماعي للمفكر د. جلال أمين في كتابه "ماذا حدث للمصريين؟"، مجرورا وراء منظومة السبعينيات الانفتاحية والتبعية للنظام الرأسمالي العالمي والهجرة وما نتج عن ذلك من تشوه قيمي وسلوكي في كل مظاهر الحياة ومنها السينما، فأُغلقت سينما سعودي وتحولت واجهتها إلى مقهى شعبي تُجاورها محال تجارية تصدرتها صورة حسني مبارك (تم إزاحتها الآن) مُوازية لصورة السادات، بينما ظلت صورة عبدالناصر في ركن بعيد منزوِ بأحد المحال.
المثير أنني دخلت السينما لأول مرة وكنت بالكاد أتممت شهرين من عمري، بصحبة أبي وأمي في دار عرض بمدينة الزقازيق حيث كان يعمل أبي في بداية مشواره المهني في أول السبعينيات ( سينما مصر وسينما سلمى شكلا جزءاً كبيراً من وجدان أجيال ولم يعد لهما وجود)، كان الفيلم المعروض هو (أبي فوق الشجرة) بطولة عبد الحليم حافظ وعماد حمدي ونادية لطفي وميرفت أمين، قصة إحسان عبد القدوس وسيناريو سعد الدين وهبة ومن إخراج حسين كمال، الفيلم الذي اعتبر وقتها من أقوى الأفلام الاستعراضية ومن أكثر الأفلام العربية تحقيقا للإيرادات، واستمر عرضه أكثر من 58 أسبوعا وزادت بعرضه بعد ذلك سنوات في دور العرض الصغيرة بالأقاليم، قالت أمي إنه عندما تلقى عبدالحليم حافظ صفعة عماد حمدي الشهيرة، انفعل الجمهور وكاد أن يحطم السينما بينما ظللت أنا أبكي بشدة، وكأن دموعي هي ماء معموديتي في السينما. لا أستطيع أن أحدد الآن هل كان فيلم "أبي فوق الشجرة" هو نقطة البداية في علاقتي بالسينما، أم أنه أيضا إشارة الولوج إلى شخصيتي الرومانسية أو التائهة؟ اللعبة الجوزائية المعتادة، لكن المؤكد أن علاقتي بالسينما بعد ذلك تلخصت في مشاهداتي للأفلام القديمة على شاشة التليفزيون في المنزل، حتى قضى الله أمرا كان مفعولًا، حيث لعبت الصدفة دورها ووقعت عيناي على مقال نشرته إحدى المجلات للناقد الكبير علي أبو شادي عن فيلم "الجوع" للمخرج علي بدرخان في العام 1986، كنت لا أزال طالبة صغيرة في المدرسة تحلم بمستقبل أكبر من سنوات عمرها وقرأت مقال علي أبو شادي فتعلقت من خلاله بالسينما كأداة مهمة من أدوات النضال الاجتماعي والثقافي، يومها لم أكن قد شاهدت الفيلم في السينما، وربما شاهدته بعد ذلك بسنوات عبر أشرطة الفيديو لكن مقال أبو شادي ظل طوال الوقت هو مفتاح الفيلم، بل ومفتاح اهتمامي بالسينما وعالمها. اخترت مهنة المتاعب الصحافة، فحظيت بالاثنتين: الصحافة والسينما، استحوذ عملي الصحفي على كل تفكيري ووقتي عن طيب خاطر، وأحببت السينما لدرجة الولع ومشيت في دروبها على مهل أبحث وأكتب، ما حقق لي ما رغبته دائما في متابعة الأفلام ومتعة الحكي.
*أنت تحرثين في حقول شتى ما بين الأدب والفن السينمائي كمحاورة وناقدة إضافة إلى مسارك في الإعداد الدرامي، فأيهما له الأولوية في نتاجاتك، وألا ترين أن هذه التوليفة من النتاجات تبعدك كثيراً عن الحقل الإبداعي في الأدب؟
- بدأت الكتابة الأدبية مبكراً، حتى أننى لا أذكر متى بدأت بالضبط، ولا أذكر حتى الحافز المباشر الذي جعلني أكتب قصتي الأولى، وإن كنت أذكر أنني حرصت على إرسالها إلى إحدى مجلات الأطفال، وقرأتها لشقيقاتي وسط دهشتهن التي غطت على ضحكات الكبار في عائلتي، ولحسن حظي أن أمي شجعتني على المواصلة والاستمرار حتى صارت الكتابة تحتل الجزء الأكبر من اهتمامي، رُحت أنشر ما أكتبه في مجلة المدرسة، حتى نشرت لي أول قصة في مجلة صباح الخير" عام 1990 لما التحقت بالجامعة وبدأت بموازاة الدراسة، تدريبي العملي في مجال الصحافة؛ ومنذ تلك اللحظة صار عملي في الصحافة له الأولوية والمساحة الأكبر، أكتب القصة وأنشرها بشكل متفرق ومتباعد في بعض المجلات، بينما يستحوذ عملي الصحفي على كل تفكيري ووقتي عن طيب خاطر، خصوصاً أن تركيزي على الكتابة السينمائية حقق لي ما رغبته دائماً في متابعة الأفلام ومتعة الحكي خلالها، وهذا كان له تأثير كبير في شكل كتاباتي عموما حيث تتغلب عليها الصورة، ربما تأثرت بالسينما بحكم عملي ولكنني مهتمة دائما بالتفاصيل التي تصنع صورة وتكونها، كما لو كنت أنا شخصيا داخل الكادر أرتب الأشياء وأزيح بعضها فيما أقدم الآخر، على أي حال فإن الصورة عندي بطل يسهم في هذه الحالة المتفاعلة مع الحقيقي والافتراضي مما يزيد من الشغف ويخلق حالة من التشويق تشبه التشويق السينمائي.. ربما يرى البعض أن اهتمامي بالصورة جعلني بعيدة عن حقل الكتابة الأدبية وأظنهم محقين، لكن هذا أمر لم يفزعني إطلاقا لأنني طوال الوقت أفكر بروح الهاوية أكثر من المحترفة، ويعنيني أكثر فعل الحكي والتفاعل معه، وأعرف أن كل شيء يحدث في موعده.
* غالباً ما تكون هناك صعوبة في تقبل النقد الهادف الموضوعي، وأحياناً يكون مرفوضاً لا سيما بين الوسط الفني، كيف تتعاملين مع الآخرين من جانبك النقدي؟
- حين أكتب لا يشغلني رأي الآخرين، أركز فقط في رؤيتي واستبصار ما يحمله العمل الفني من فكرة وموضوع وصنيع بصري، كما أفتش عن الحس الجمالي فيه، يعنيني جدا الجمال وأسعى لالتقاطه.
* كانت لك زيارة الى بغداد خلال افتتاح مهرجان بغداد السينمائي، كيف رأيت الأفلام المشاركة؟ وهل لفت نظرك فيلماً عراقياً محدداً؟
- حظيت بزيارتي إلى بغداد، وهي الزيارة التي تمنيتها كثيراً منذ صباي وأخيراً تحققت، انخرطت في فعاليات المهرجان بحماس وبأسئلة كثيرة تتعلق بالمهرجان وبما يمكن أن يترك من أثر في المشهد الثقافي داخل العراق، رأيت أن إقامة مهرجان سينمائي داخل العراق اليوم هو أمر حتمي، هذا بلد أدرك السينما، مشاهدة وإنتاجاً، منذ بداياتها في العالم العربي، بلد عرفناه في أعوام سابقة مصدرا حيويا للنشاط الثقافي وبالتالي يصبح من الضروري أن يستعيد هذا النشاط وينظم مهرجانه السينمائي. ومن هذا المنطلق تابعت التجارب العراقية الجديدة على تنوعها واختلافها، وتلمست نفسا سينمائيا وهو جدير بالالتفات والمعاينة، خصوصا في جمالياته الفنية وأيضا مساحة البوح فيه من دون مبالغة، بدا ذلك ملحوظا في أفلام طويلة مثل "آخر السعاة" إخراج العراقي سعد العصامي، "ميسي بغداد" إخراج سهيم عمر خليفة، "المرهقون" إخراج عمر جمال، بما تمثله كتنويعات مختلفة فيها قدر كبير من الشفافية واللحظة الإنسانية الحقيقية للعيش في عمق الألم، وبما تعبر عنها صناعة بصرية تحتوي على متتاليات جمالية عن المعاني والرموز والوقائع.. نفس الحالة تنسحب على أفلام قصيرة مثل "مظلة" إخراج حيدر فهد الذي التقط بحساسية مرهفة لحظة إنسانية شديدة الخصوصية بالمجتمع العراقي قد تبدو فيها غرابة لافتة، لكنه حولها إلى نوع من الاستفهام الذي يبحث عن إجابة، والإجابة كامنة في تفاصيل صورته المفعمة بالوجع والأمل في التخلص منه والتطهر، كذلك نتلمسه في "ترانزيت" إخراج العراقي باقر الربيعي، بما فيه من سطوة جمالية تعبر عن الواقع القاسي والفرد والتفاصيل الإنسانية المختلفة، إضافة إلى تجارب عربية أخرى توازت مع هذه الأفلام في صنيعها السينمائي، الباحث عن بوصلة إنسانية جديدة.
* ما الرسالة التي أردت إيصالها من خلال فيلمك (شارع شامبليون.. تأملات مدينية) للمخرجة أسماء إبراهيم الذي عرض في مهرجان بغداد السينمائي؟
- الفيلم عن قصة شارع شامبليون التي وردت في مجموعتي القصصية "دومينو" الصادرة عن دار مصر العربية في العام 2014، وهي مجموعة ترصد علاقة امرأة بالآخر، هذا الآخر هو الرجل وهو المجتمع، نرى المد والجزر في علاقتها بالمدينة كحجر وكبشر.. تغوص الحكايات في دواخل المرأة كاشفة عن حنين ومشاعر إنسانية دافئة، فضلاً عن خصوصيتها بالمزج بين العام والخاص، قصة "شارع "شامبليون تحديداً تطرح العلاقة بين المؤلفة والمدينة، نرى من خلالها امرأة مصرية هي أنا، حرة تحكي عن الشارع الذي قضت فيه أغلب سنوات عمرها وتكشف عن علاقتها بالمدينة والتحولات العنيفة التي مرت بها المدينة، امرأة تواجه مخاوفها بالكتابة وتتحرك على الشاشة كأنما تقود عالمها الصغير إلى وجهة جديدة، التجربة مهمة بالنسبة لي ومختلفة، خصوصا بحضوري على الشاشة كما لو كنت أحاول الفرار من الكاميرا والتحرر من ذكرياتي.. في البداية أعجبت القصة المخرج دويدار الطاهر، كان يأمل في تحويلها إلى فيلم قصير، لكن القدر لم يمهله ورحل قبل اتخاذ أي خطوة، ثم تحمست لها المخرجة أسماء إبراهيم وحولت بدأب الحلم إلى حقيقة مع فريق عمل مجتهد وموهوب، كل واحد في هذا الفريق، عمل متطوعاً في ظل الظروف القاسية للإنتاج السينمائي بشكل عام.
* هل السوشيال ميديا وفرت الأجواء لصنع نقاد؟
- لا بد أن نعترف أن النقد السينمائي في عالمنا العربي تقريبا غائب في الصحافة الورقية، وحتى الكتابة في المواقع الإلكترونية تفتقد غالبا للحس النقدي السليم، كتابات قليلة التي تحقق المتعة والوعي، والأغلبية صارت لكثيرين يقدمون مراجعات للأفلام أو يثيرون قضايا خاصة تتعلق بالنجوم، وهذا ما جعل البعض من كبار السينمائيين يتحدثون عن موت النقد لصالح هذه الموجات الجديدة، حتى لا أكون متعسفة وقاسية فإن الإنترنت لم يقتل النقد، بل أتاح الفرصة لأقلام حقيقية لم تجد مساحة أخرى للظهور، لكنه كان أفقاً أوسع لهؤلاء الجدد الذين لا يهتمون بالنقاش الجدي حول الأفلام والقضايا السينمائيةـ إنما بتلاوة حكايات الأفلام أو إشاعة أخبار وفضائح النجوم.
* برأيك الى أي مدى الفن بحاجة الى النقاد؟ وكيف ينظر الفنانون إلى النقاد من وجهة نظرهم الفنية؟
- برأيي أن الفن لا يمكن أن يستغنى عن النقاد، حتى لو كان بعض الفنانين لهم رأي آخر، أو أنهم يدعون عدم اهتمامهم واكتراثهم بآراء النقاد، فالكتابة النقدية هي استكمال للصناعة الفنية وهي التنوير في الفضاء الثقافي العام والإسهام في تحسين الوعي المعرفي والجمالي والبصري من خلال الكتابة عن المشاهدات الفنية وتقديم قراءات فنية مختلفة.
* هل على الناقد الفني أن يكون محايداً دائماً أم ممكن أن نراه مجاملاً ومصفقاً في أحيان أخرى؟
- الناقد الواعي هو القادر على إثارة النقاش دون أن يكون تابعاً أو ظلاً لأحد، إنه معني فقط بالعمل الفني وليس بمنافع وحسابات أخرى لا تتعلق بمقومات الثقافة السينمائية التي تحتاج الى من يحصنها في مواجهة المنتفعين، عانى النقد السينمائي والفني العربي عموما كثيرا ويحتاج الى مشروع ثقافي متكامل للنهوض به.
* برأيك هل على الناقد أن يكون صدره رحباً ويتقبل النقد؟
- هذا ليس اختياراً بل إنه أمر ضروري، فإذا كان الناقد يسعى في بلورة خطابه النقدي أن يفكك ويحلل ما يفعله الآخرون، فعليه أن يتقبل رأي المتلقين في كتاباته مثلاً، فهذا ما يؤسس لمشروع نقدي وفني حقيقي، ويفتح حواراً وتواصلاً مع جميع الأطراف في مجتمعات المفترض أنها تسعى إلى نقطة التقاء تعيننا جميعا على الحياة وتقبل الآخر.
هل تتفقين أن كل ناقد صحفي لكن ليس كل صحفي ناقداً؟
- صحيح أن هناك شروطاً للنقاد منها كما أسلفنا الموهبة والتأمل والأسس العلمية والتمكن من تقدير الأشياء بشكل صحيح، كذلك الشفافيّة والنزاهة بعيدا عن الهوى والمنفعة الشخصية، لكن هذا لا يعني التقليل من الصحفي الفني بشكل عام وتقديمه في قالب نمطي كاريكاتوري بشكل مبالغ فيه، كما فعلت السينما المصرية في أفلام كثيرة، لأنه في الواقع ظهرت أسماء صحفية أثرت الحركة النقدية والكتابة السينمائية والفنية إجمالا مثل جليل البنداري، عميد الصحافة الفنية، حسب ما وصفه الناقد سمير فريد، معتبرا إياه عميدها في الصحف بينما حسن إمام عمر عميدها في المجلات، إذ أنصفه وأنصف معه صحافة السينما وكتب أنها في مصر وكذلك في كل دول العالم أعرق من النقد السينمائي، مشيرا إلى أنه لا يجب الخلط بين النقاد والصحفيين الذين يكتبون عن السينما، أو أي من الفنون بما في ذلك فنون الأدب، مؤكدا أن النقد ليس أعلى رتبة كما هو شائع، ثم دلل على ذلك بأن "فيبريسي" اسمه الاتحاد الدولي للصحافة السينمائية وليس الاتحاد الدولي لنقاد السينما.
استشهادا بمقولة سمير فريد: "ورُب صحفي أفضل من كثير من النقاد"، فإن جليل البنداري المثير للجدل، خطّ اسمه في تاريخ أهم رموز الصحافة الفنية تأثيرا، ولم يخرج من دائرة النقد والتحليل الفني الجاد، كما أنه كان شاعرا ومنتجا سينمائيا ومؤلفاً للأغاني وكاتب سيناريو مدهشاً، وعلى أي حال فإننا يجب أن نعترف بوجود الصحفيين الذين يستسهلون في الكتابة، كما يجب أن ندرك أيضًا أن غالبية الجمهور غير مُكترثة بالنقد وربما بالصحافة الفنية إجمالا، ويتعاملون مع السينما كعمل ترفيهي فقط.
* يبدو تجذبك الكتابة عن السير الذاتية الفنية أكثر من غيرها فصدرت لك كتب حول ذلك مثل كتاب (عمر الشريف بطل أيامنا الحلوة)، وكتاب (سامية جمال الفراشة)، وكتاب (سمير صبري حكايتي مع الزمن) وغيرها، ما الذي يستهويك في السير الذاتية؟ وهل هناك شخصية فنية معينة تتوقين في تخصيص كتاب لها في الأيام القادمة؟
- لدي طموح أن يكون هناك مشروع وجود كتب تتناول مسيرة رواد الفن الكبار حتى يتعرف عليهم الجمهور، ويعرفون جزءاً من تاريخ هذا الوطن وكيف صنع فنه وفنانيه، وذلك كجزء من مشروع ثقافي شامل يعيد ارتباط الناس والشارع بجذورهم الثقافية وتصويب اتجاهاتهم نحو التنوير، حظيت بتقديم الكتب عن الرواد وكبار الفنانين وتحقق جزء من حلمي وإن كان لازال ناقصا، لأن بعض هذه الكتب تصدر عن مهرجانات سينمائية وتوزع بين النقاد والصحفيين، وإن صارت في مكتبتنا الفنية، لكن لا يوجد منها نسخة شعبية للجماهير العادية، يستثنى من ذلك كتابي "عمر الشريف بطل أيامنا الحلوة"، وكتابي القادم "الفراشة سامية جمال"، مجمل الشخصيات التي كتبت عنها، هي تمثل روح الحكايا المصرية، فكل شخصية منهم تمثل جزءاً من الشخصية المصرية عموما بخصائصها التي لا تسير على وتيرة واحدة، فهي ابنة مجتمع كوزموبوليتان متعدد الثقافات والأجناس والأعراق؛ كما كان عمر الشريف وسمير صبري أبناء مدينة الإسكندرية ولكل واحد فيهما حكاية ثرية لا تقل عنها حكاية شويكار أو حسين صدقي، نموذجان مختلفان لنجمين مصرين والجد تركي، خليط مختلف عن سامية جمال الصعيدية الأب والمغربية الأم، كل واحد من هؤلاء حكاية مصرية أصيلة ومعجونة بروح هذا البلد الذي صار كما قال عمنا وأستاذنا أسامة أنور عكاشة، رحمه الله، في معرض سؤاله الحائر عن الحدوتة المصرية وهويتها وأصولها، والذي طرحه في أعماله مثل "أرابيسك" و"زيزينيا"، مصر هي البوتقة التي انصهر فيها كل أولادها وصاروا جزءاً من أرضها وسمائها، فواصلت سلسلتي بأسماء كبيرة أخرى مثل صلاح منصور، خالد الصاوي، محمد منير، والموسيقار الكبير هاني شنودة، مازلت أحلم باستكمال مشروعي مع نجوم شكلوا وجودنا وأضاؤا حياتنا.
* كيف تقيمين توجه بعض شركات الإنتاج على إنتاج مسلسلات ذات 15 حلقة تلفزيونية، هل تقليص عدد حلقات المسلسل سوف يشبع فضول المشاهد ويعوضه عن 30 حلقة؟
- ثمة تغيير جوهري من خلال هذه المسلسلات، إذ ينحو الاتجاه الجديد منذ فترة صوب تأكيد مذهب مسلسلات الـ15 حلقة، بدلاً من الـ 30 حلقة الحتمية التي لازمت جمهور الدراما التلفزيونية خصوصاً في شهر رمضان سابقا، إنه النمط الذي تدرج مؤخرا عبر المنصات الإلكترونية خارج الموسم الرمضاني، وهو ما يشير إلى تأثير هذه المنصات في تغيير ما يحدث سواء في قوانين السوق التقليدية أو طريقة تلقي الجمهور. أشجع هذا الاتجاه وهو بالمناسبة كان موجوداً في مصر قديماً، بل كان يوجد السباعية "سبع حلقات" والخماسية، فهذا يمنح فرص التنوع الدرامي وظهور وجوه جديدة سواء في التمثيل أو الكتابة أو الإخراج والعناصر الفنية الأخرى.
* ما هو تقييمك للمهرجانات السينمائية العربية بكل صراحة؟
- بشكل جدي، هناك مهرجانات سينمائية عربية، قليلة تفلت من فخ التسطيح، لكني من الفريق الذي يشجع على إقامة المهرجانات وزيادة عددها بشرط أن تكون متنفسا حقيقيا للفن والثقافة والبهجة، فهذا أمر مُلح وضروري في مواجهة الإرهاب والعنف.
* أخيرا أحياناً هل تمارسين دور الناقد على نفسك؟ وما الصفة التي لا تحبينها في نفسك؟
- بالتأكيد، في نهاية كل يوم تقريبا أراجع ممارساتي على مدار اليوم بعين ناقدة، قاسية، والتردد أكثر صفة تزعجني، أظن هذا أمر يتعلق ببرجي، برج الجوزاء.