التغيـر الـمنـاخــي.. ثـمــــة أمـــل مــن قــلـب الـكـارثــة

تحقيقات وتقارير
  • 28-01-2019, 04:56
+A -A
ترجمة: أنيس الصفار
هل تعلم إنَّ دونالد ترامب؛ أحد قادة القرن الحادي والعشرين الذي يقوم بأعمال حول العالم ويمتلك طائرته النفاثة الخاصة ويحكم بالتغريد، قد رهن رئاسته على جدار هو الرمز المدني الأكثر انتماءً الى القرون الوسطى. فخلال العقود الماضية القليلة، وفيما كان نصف دزينة من الرؤساء الاميركان يعالجون مشكلة تدفق اللاجئين من الحدود الجنوبية لبلادهم، رفض المحافظون والليبراليون على حد سواء فكرة إقامة جدار، بوصفها تكتيكاً عفا عليه الزمن، لأنها أداة غير لائقة ربما أبقت بعض الناس خارجاً، ولكنها تبعث رسالة سيئة عن قيم ومُثل الانفتاح الأميركية، ولا تتصدى أصلا للعوامل التي تدفع المهاجرين للانتقال الى الولايات المتحدة.
اطلق "الفريق الحكومي الدولي لتغير المناخ" نداء صريحاً يقضي بضرورة التحرك بسرعة واتخاذ اجراء ما، وهذا هو النداء الاقوى نذيراً الى يومنا. يقول الفريق ان علينا خفض الانبعاثات السنوية على مستوى العالم الى النصف خلال الاعوام الاثني عشر المقبلة الى ان نصل بها الى نقطة الصفر مع حلول منتصف القرن.
مهما اسهبنا في وصف مدى دراماتيكية هذا المسار فلن نكون مبالغين لأن ما سيتطلبه الامر منا ليس ادنى من انقلاب سريع وشامل للاتجاه الذي تسير فيه حضارتنا حالياً. التحدي هائل لا يمكن للعقل تصوره، والمجازفات المرتقبة تفوقه هولاً،  وقد عبر مساعد رئيس احدى مجموعات العمل التابعة للفريق الحكومي الدولي المذكور بالقول: "السنوات القليلة المقبلة قد تكون الأكثر أهمية في تاريخنا." فبعد عقود من التواني والتباطؤ هذه هي الفرصة الاخيرة امامنا لإعادة الامور الى نصابها.
 
ارتفاع الحرارة
يعلق معظم الناس آمالهم على أننا سوف نوفق في تلافي الكارثة بمجرد طرح انظمة نظيفة للطاقة الى ان نتمكن في نهاية المطاف من بلوغ اقتصاد متحرر من الكربون. ولكن هذه الخطة لم تسر كما ينبغي حتى الان، فالانبعاثات لا تزال ترتفع على مستوى العالم عاماً بعد عام ونحن لم نصل بعد الى الذروة القصوى. حتى بعد وضع اتفاقية باريس للمناخ موضع التطبيق، مضافاً اليها كل الضمانات التي قدمتها حكومات العالم، فإن المتوقع هو أننا سائرون بلا توقف صوب ارتفاع في الحرارة قد يصل الى 3,4 درجات، والدمار الذي سينجم عن ذلك لا يمكن تصوره.
كل ذلك لم يكن بسبب قلة ما بذل من محاولات. لا ريب ان علينا بذل مزيد من المحاولات الجادة، ولكن مكمن المشكلة واصلها هو ان النمو الاقتصادي يلتهم محاولاتنا للتحرر من الكربون التهاماً والاقتصاد يتوسع ويتوسع بسرعة تفوق كثيراً قدراتنا على التحول الى الطاقة النظيفة. انها معركة قاسية ونحن نخسرها.
لننظر الى المسألة على النحو الآتي: يقول "الفريق الحكومي الدولي لتغير المناخ" ان علينا خفض الانبعاثات الى مستوى الصفر بحلول منتصف القرن، ولكن توجهات الاقتصاد العالمي خلال الفترة نفسها سوف تؤدي بنا الى مضاعفة الحال الراهن بما يقارب ثلاثة 
اضعاف. 
معنى هذا ان وتائر الانتاج والاستهلاك سوف تتصاعد ثلاث مرات بقدر ما تفعله كل عام، وسوف يكون من الصعوبة بمكان اذن تحرير الاقتصاد العالمي الحالي من الكربون خلال هذه الفترة الزمنية القصيرة. بل ان من المحال واقعياً ان نتمكن من مضاعفة كل ما بذلناه ونبذله بمقدار ثلاث مرات.
 
امكانية خفض الحرارة
اذا ما استمر النمو على معدلاته المعهودة فإن خفض الانبعاثات الى النصف بحلول العام 2030 سوف يقتضي منا تحرير الاقتصاد من الكربون بسرعة تصل الى 11 بالمئة كل عام. 
ولكي نرى الامور ضمن منظورها الواقعي نقول ان هذه السرعة تفوق خمس مرات حتى المعدل التاريخي المتحقق في نزع الكربون وهي اسرع بحوالي ثلاث مرات مما يتوقعه العلماء ممكناً، حتى اذا افترضنا توفر افضل الظروف واكثرها تفاؤلاً. فحتى لو رفعنا ضريبة الكربون الى حدود شاهقة وقدمنا دعماً سخياً لمشاريع الطاقة النظيفة قد ننجح في التحرر من الكربون بمعدل سرعة لن يتجاوز 3 أو 4 بالمئة كل عام، وهذا ادنى كثيراً من المعدل المطلوب. 
المشكلة عويصة و"الفريق الحكومي الدولي لتغير المناخ" يدرك هذا، لذلك يضع التقرير الخاص عدداً من السيناريوهات الممكنة لإبقائنا دون حد 1,5 درجة مئوية. معظم تلك السيناريوهات تفترض ان بوسعنا مواصلة النمو في الانتاج الصناعي، وبما ان ذلك سيجعل التحدي اكثر صعوبة سوف يتحتم علينا اعتماد تقنيات في "الانبعاثات السالبة" لا تزال طي التصور الفرضي كي تنتشلنا من محنتنا. اذا اعتمدنا هذا نستطيع الاستمرار بممارسة التلويث حالياً (حتى لو تخطينا رصيدنا الكربوني بمرتين او اكثر) طالما اننا سنبتكر ذات يوم طريقة لامتصاص ذلك الكربون وانتزاعه من الجو في وقت لاحق من القرن.
الخطة التي تدور في خلد "الفريق الحكومي الدولي لتغير المناخ" يرمز اليها بالاحرف "BECCS" وهي اختصار لعبارة بالانكليزية ترجمتها (الطاقة الحيوية مع حجز الكاربون وخزنه). الفكرة المتصورة هنا هي انشاء مزارع عملاقة هائلة الاتساع في مختلف انحاء العالم تقوم بامتصاص ثاني اوكسيد الكاربون من الجو، بعد ذلك تؤخذ المحاصيل التي تنتجها تلك المزارع لاستخراج الوقود الحيوي منها، ثم يحرق هذا الوقود في محطات للطاقة ويحتجز ثاني اوكسيد الكاربون المنبعث من مداخنها ليحجز عميقاً داخل الارض: يا للنتيجة المذهلة! لقد اصبحت الانبعاثات صفراً!
نبدو هكذا وكأننا وجدنا حلاً أنيقاً لمشكلتنا، وهو حل سيستطيبه السياسيون لأنه يوحي اليهم بأننا نستطيع درء الكارثة المناخية دونما حاجة لتغييرات كبرى في الوضع الاقتصادي القائم. المسألة هنا تشبه اصدار عفو عن سجين محكوم قابع في زنزانته.
 
فقدان الغطاء النباتي
ولكن هذا الحل يصطدم بجملة من المشاكل، أولها أننا لا نملك في ايدينا دليلاً مؤكداً على ان التقنية المشار اليها سوف تنجح عند تطبيقها بهذا المقياس الواسع. وحتى لو نجحت فإننا سنقع أسرى مسار يتجه صوب ارتفاع في درجات الحرارة لا نجاة منه. 
لهذا يجادل "كيفن اندرسون" و"غلين بيترز"، وهما من ابرز علماء المناخ في العالم، بأن تقنية "BECCS" تمثل مقامرة جائرة تكمن وراءها مجازفات كبيرة، على حد وصفهما، مقامرة سوف توقعنا في مشكلة اخلاقية خطيرة لأنها اشبه بترنيمة تغرينا بالنوم وتأجيل الحركة الى ان نصطدم بالعواقب الكارثية مستقبلاً.
حتى لو نجحت تقنية "BECCS" بالمقياس الواسع فسوف تكون هناك مطبات اخرى بانتظارنا. احد هذه المطبات ان علينا تخصيص مساحات شاسعة من الاراضي الصالحة للزراعة لانتاج الوقود الحيوي، وهذا معناه مزارع تعادل مساحتها مساحة الهند مرتين. إذا ما فعلنا ذلك فإننا قد لا نخرج بالازمات الغذائية الهائلة وحدها بل قد يفضي بنا الحال ايضاً الى كارثة بيئية، حيث توصلت العالمة الالمانية "فيرا هيك" الى ان تقنية "BECCS" سوف تسفر عن فقدان 10 بالمئة من غطاء الغابات على مستوى العالم الى جانب تدمير التنوع الاحيائي بنسبة 7 بالمئة، وهذا سيؤدي الى تفاقم الازمة الحالية بالاضافة الى تسببه بشح واسع في المياه وتدهور في نوعية التربة.
لذا يتعاقب العلماء في قرع اجراس الانذار، ففي العام 2014 طعن 15 باحثاً في مصداقية "BECCS" من خلال مقال نشرته مجلة "التغير المناخي في الطبيعة", وفي السنة التالية جادل 40 باحثاً آخرون على صفحات المجلة نفسها بأن اعتماد "BECCS" ينطوي على "اقصى درجات المجازفة"، وفي السنة الحالية نشر "المجلس الاستشاري العلمي للاكاديميات الاوروبية"، وهو هيئة جامعة للاكاديميات العلمية الوطنية لسائر الدول الاعضاء في الاتحاد الاوروبي، تقريراً يشجب اعتماد "الفريق الحكومي الدولي لتغير المناخ" خطة "BECCS" وسواها من خطط الانبعاثات السالبة. الاجماع على هذا الامر اليوم بات راسخاً رسوخ الصخر.
 
تقليص الانتاج
اخيراً، وعى "الفريق الحكومي الدولي لتغير المناخ" الرسالة، فقد تضمن تقريره الخاص في الاسبوع الماضي سيناريو جديدا مثيرا للاهتمام، ولكنه لأول مرة لا يعتمد اية تقنيات اساسها الأمل والمقامرة. يستعرض السيناريو، الذي طوره فريق دولي من العلماء، كيف ان بالامكان خفض الانبعاثات بسرعة تكفي لابقائنا دون 1,5 درجة ولكن بشرط ان نكون مستعدين لتغيير منطقنا الاقتصادي جذرياً.
 فبدلاً من التوسع في انتاجنا الصناعي صعوداً وبأي ثمن يقترح علينا السيناريو بديلا ابسط، هو ان نبدأ بخفض الاستهلاك.
المنحى الجديد الذي يطرحه علينا "الفريق الحكومي الدولي" هو ان نقلص استهلاكنا من المواد بنسبة 20 بالمئة على نطاق العالم ككل وان تتصدر الدول الغنية هذا المسار. 
كيف سيكون شكل الصورة؟ يعني ذلك الابتعاد عن منتجات الاستخدام لمرة واحدة والتوجه الى السلع التي تدوم بدلاً منها. معنى ذلك ان نصلح الاشياء التي عندنا بدلاً من شراء اخرى جديدة .. معناه ان تصمم السلع من الاساس بحيث تكون قابلة للتصليح .. وأن توجه الاستثمارات نحو سلع الخدمة العامة وايجاد سبل للتشارك بها، من السيارات الى مكائن جز العشب، يعني التحول من عقلية الامتلاك الى عقلية الاستعمال.
تقليص انتاجنا الصناعي سوف يهبط بحاجتنا للطاقة الى النصف، وهذا سيسهل علينا كثيراً تحرير اقتصادنا من الكربون في الوقت المناسب لتلافي الانهيار المناخي. علاوة على ذلك يقول العلماء ان هذا هو افضل أمل في يدنا لعكس اتجاه التدهور في جوانب اخرى من نظامنا البيئي. وبما ان هذا السيناريو لا يتطلب التنازل عن الارض لصالح "BECCS" سيكون لدينا متسع كبير لإعادة التشجير والقضاء على الفقر والجوع وتحسين التنوع الاحيائي.
كيف نحقق ذلك؟ لن يكفي تغيير السلوك على المستوى الفردي، بل يتطلب الامر منا تغييراً على مستوى 
الانظمة. الخطوة الاولى تكون بفرض كوابح على استهلاك الموارد، كما ان بوسعنا سن قوانين تحظر التقادم المخطط له للسلع وتحث على وضع تصاميم لإطالة عمر السلعة وامكانية اعادة تدويرها بجعل الوسط التجاري يستعيد المنتجات المتعطلة. 
قد نفكر حتى في التخلص من الاعلانات الدعائية لتحرير الناس من ضغطها النفسي الذي يدفعهم الى استهلاك اشياء ليسوا بحاجة اليها. غير هذا وذاك هنالك عشرات الافكار التي يمكن تأملها والافادة منها. 
 
مجلة فورن 
بولسي الاميركية
 
المصدر: جريدة الصباح