من النمذجة إلى النقد راهنيَّة الفكر الفلسفي العربي

مقالات
  • 3-11-2022, 07:38
+A -A

 علي المرهج

ليصلك المزيد من الأخبار اشترك بقناتنا على التليكرام
يدور مدار الفكر العربي الحديث والمعاصر في فلك المعارضة تارة، وفي فلك السلطة تارة أخرى، وستجد في فكر المعارضة مفكرين يحلمون بتأسيس أيديولوجيا (الحزب القائد)، وهم لا يختلفون كثيراً عن المفكرين المدافعين عن السلطة وفكرها من الذي تماهوا مع التنظير لفكرة «الحزب الواحد».

جل أطروحات المفكرين العرب جاءت لبناء رؤية إقناعية لا رؤية ابستيمولوجية (نقدية)، وإن وجدت بعضها يوظف الفلسفة، فذلك من أجل جعل الأبستميولوجي في خدمة الأيديولوجي.
هناك اتجاهات راديكالية تُصادر الحقيقة لصالحها، وهناك اتجاهات توفيقية، وهو توصيف إجرائي لفهم توجهاتهم، ولكنهم ينقسمون إلى قسمين: الأول ينطلق من الحاضر لتأصيله بمقولات الماضي، أي جعل الحاضر رهين الماضي، ولا فهم لنا له إلا من خلال العودة للماضي بوصفه: (الإطار) الذي يحكم حياتنا ويدعونا للعودة لما كان عليه السلف، على قاعدة (لا يصلح أمر آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها)، فتجد الكثير من المفكرين التجديديين يحكمون الحاضر بهذه المقولة، التي تؤكد (أن سبب تأخر المسلمين هو عدم معرفتهم لأمور دينهم) وأن (الإسلام دين العقل).
حاول البعض جعل الماضي في خدمة الحاضر، وتأويله بما يخدم حاضرنا، ليكون تقليدنا للماضي هو مقياس وعينا لعلنا نحقق نهضته الرسالية. بل الحاضر، وما الماضي غير فهمنا له نحن المعاصرين، ولكن بشكل (نكوصي) استردادي لأنموذج الماضي واستحضاره في حياتنا المعاصرة.
لم تفلح المواجهة هؤلاء لهذا النمط من الفكر، بوجود فكر مضاد لسطوة التراث وهيمنته، رغم عصرانية الرؤية، عبر الانفتاح على الحاضر بما يجعلنا نعيشه، وأحداث قطيعة معرفية معه لا وصل لنا ولا عود له.
ما يجعلنا نحلم ببناء رؤية معرفية غير منحازة للماضي أو الحاضر، ولا تستعير أنموذج أي منهما هو ظهور تيار نقدي في الفكر العربي المعاصر، ينتقد فكر التبعية والتقليد للحداثة الغربية (المعاصرة)، أو للنهضة العربية الإسلامية (الماضية)، وهو اتجاه يعمل أصحابه للخلاص من هيمنة الأيديولوجيا والنمذجة الفكرية التي ترتكن على هبات التراث الإسلامي الناهض أو حاضر الغرب النابض.
فهم الماضي (زمكانياً) وفهم المعاصرة والحداثة زمكانياً وفق شروط (المنهج التاريخاني)، هي مهمة الفكر النقدي لا استعارة أنموذج ناجح فكرياً أو علمياً من الماضي أو من الحاضر، لأن الفكر النقدي يرتكن على منهج (الفصل والوصل)، أي جعل المقروء معاصرًا لنفسه، أي قراءته وفق تشكله التاريخي، وهذا يعني فصله عنا، وجعله معاصرًا لنا معناه وصله بنا كما يقول (محمد عابد الجابري).
مثل هكذا منهج خلصنا من فكرة العلاقة غير المتوازنة بين (الأنا والآخر) لأن الغاية هنا تحصيل المعرفة لا وإعادة إنتاجها لا نسخها وتصييرها على أنها الأنموذج الخلاصي لتحقيق النهضة.
مهمة الفكر النقدي الأجلى هي فضح ضعف خطابات «النمذجة»، والكشف عن هزالتها في تطبيق مقولاتها على الفكر العربي على قاعدة «تفصيل يوسف على قد القميص، لا تفصيل القميص على قد يوسف»، بتعبير (مدني صالح).
تبلورت ملامح النزعة النقدية في الفكر العربي المعاصر، على وفق هضمها للفكر الفلسفي العقلاني في التراث العربي وفي الفكر الغربي الحديث والمعاصر، وهو ليس فكرًا ينسخ فكرة من التراث، أو أخرى من الحداثة، ولا يسعى أصحابه للتوفيق بين هذه وتلك، بقدر ما يحاول مفكروه الكشف عن أسباب تخلف العقل العربي في قراءة تراثنا الفكري قراءة نقدية، ومن جمود وتكلس فكري أو ثقافي.
قد يهتم البعض في نقد التشكيل العقلي، الذي صيّر العرب والمسلمين بهذا الشكل من قبول الركون إما للماضي والانزواء فيه، أو الهروب من الواقع وعدم السعي لفهمه، ليحصل نوع من «الاغتراب الزماني» مثل العودة للماضي، والتفاخر بالمجد الذي حققه الأسلاف، أو «الاغتراب المكاني» والعيش بطريقة الغرب، و»التفرنج» وفق رؤية (فؤاد زكريا).
ما يُميز الفكر النقدي هو الاندكاك بالواقع من دون انفعال، والابتعاد عن تبني خطابات شعارتية منفعلة وعاطفية، تدافع عن تبني أنموذج من الماضي، أو تبني أنموذج من الحداثة، لأنه فكر يعمل على تشخيص لهذا السعي المحموم وراء «النمذجة»، والتقليد والتبعية التي تُغيب فاعلية العقل في التفكير الحر والنقدي.
المشكلة تكمن في أن أغلب فكرنا العربي النهضوي لم يتعامل مع معطيات التراث، أو معطيات الحداثة على قاعدة الهضم والاستيعاب، كما يقول «فاليري»: «الذئب مجموعة خراف مهضومة» ولكن الذئب ليس خروفاً. لذلك ينبغي أن يكون التعامل مع التراث على أنه من أسباب تشكيل الهوية، ولكننا أبناء الحاضر، ولا يصح أن يكون الابن نسخة من الوالد، لأنه خلق في زمان غير زمن الأب، كما لا يمكن أن يكون نسخة من آخر مجايل له، لذا نحتاج لهضم الفكر لا نسخه، سواء من التراث أو من الحداثة، والحل هو تبني الوعي 
النقدي.