(واع) تبحر بين أمواج شعر الجواهري على سفينة ذكرياته الأدبية والنضالية

ثقافة وفن
  • 27-07-2022, 14:37
+A -A

ليصلك المزيد من الأخبار اشترك بقناتنا على التليكرام
بغداد – واع – فاطمة رحمة

على ضفاف دجلة الخير يقع منزل يحمل بين جدرانه ذكريات تعتَّقت بعمق العراق ووجعه، وبين أركانه تشخص صورة لقامة كان لها أثر في تاريخ الشعر العربي المعاصر، حتى اطلق على صاحب تلك الصورة آخر شعراء الكلاسيك، منزل يحمل حكايات مثل البحر المتدفق حاملاً بين أمواجه قصائد، وكلماته غازلت العقول قبل القلوب وأصبحت نبراساً ينير طريق الأدب والمعرفة.

في هذا المنزل البغدادي الأنيق تسكن ابنة شاعر العرب الأكبر محمد مهدي الجواهري. الدكتورة خيال الجواهري التي رحبت بحفاوة بوكالة الأنباء العراقية (واع)، دخلنا المنزل وكانت صورة الجواهري وروحه تحيط المكان، كل شيء فيه كأنه قصيدة من نظم الشاعر الكبير، بحديقته الغناء وطرازه المعماري الجميل وتنسيق أثاثه الذي يتخذ من الكتب محوراً لكل شيء.

تقول الدكتور خيال وهي تصف والدها: "لقد كان ابي موجوداً دائما بيننا رغم انشغالاته الصحفية والسياسية واتحاد الأدباء وتنقله من بلد الى آخر.. كان اباً ديمقراطياً يحبنا ويحترمنا، أخبرني يوماً بانه اختار لنا اسماءً تميزنا، مثل خيال وبلال ونجاح وكفاح وفرات واميرة وفلاح، والحمدلله اصبحنا بحجم مسؤولية هذه الأسماء".

وأضافت:"كان يقرا كثيراً ويقول الإنسان لن يكون اديباً إذا لم يقرأ مصادر التكوين ونهج البلاغة والأمالي للقالي والجاحظ والمتنبي والبحتري وغيرهم، من أدباء وكتب لا تعد ولا تحصى".

واستذكرت احد المواقف:"ذات مرة قمت بدور صحفية واجريت معه لقاءً وسالته عن اهم مصادر التكوين؟ قال القرآن أولا كلغة وبلاغة وبعدها درس النحو حيث بدا بترتيب جدول قراءاته وهو بعمر الإثني عشر عاماً، وبعمر الستة عشر عاماً ألقى أول قصيدة له بعنوان ثورة العشرين"، مضيفة: "طالما كان والدي يتردد على بيت خاله هو واخوه الأكبر عبد العزيز الجواهري ليفتح لهم خاله المكتبة الملأى بالكتب لكن بعد مدة منع الخال عمي عبد العزيز من استعارة اي كتاب لانه من شروط الاستعارة لديه الحفاظ على الكتاب وعدم الكتابة عليه أو طي الصفحة، وكان عمي يعمل كل هذا فلذلك لم يعره اي كتاب اما والدي فاستمر بالحفاظ على الكتب والمواظبة على القراءة، وفي إحدى المرات كتب والدي أربعة أبيات الى خاله (كاشف الغطاء) لانه قريب منه جدا، واذكر انه يأخذ الكتاب الذي يستعيره وينزل الى السرداب في أيام الحر الشديد، ويقوم بنقله وكتابته ليرده إليه بأسرع وقت".

وأفادت الدكتورة الجواهري: "ما يميزه ابي عن أقرانه، ثقافته وقراءته الكتب العالمية المترجمة، مركزاً على الكتب الخاصة بالمرأة واحترامها رغم انه عاش في بيئة محافظة جداً في النجف الأشرف" لافتةً: " كان جدي يأخذه الى المجالس فيشعر بالملل؛ لأن الأمور التي تطرح لاتربطه بها علاقة في ما تخص الزواج والمشاكل الاجتماعية فيخلد الى النوم؛ ولان والده مرجع ديني لذا يلتجئون إليه لحل مشاكلهم وبسبب هذه المواضيع ومن خلال قراءاته وقناعاته اصبح لديه تناقض بين العلم والمثالية والغيبية".

وبينت: "في العام 1929 افتتحت أول مدرسة للبنات في النجف؛ فألقى قصيدة في هذه المناسبة عنوانها (علموها) 

 علموها كفاكم شنارى

 وكفاها ان تحسب العلم عارا

 وكفانا من التقهقر انا 

 حتى لم نحل الامور الصغارى

وذكرت: "كان والدي يحب ان يسمع الموسيقى.. وتزوج مناهل الجواهري ابنة عمه وانجبت له فرات وفلاح واميرة وبعدها انتقلت الى جوار ربها فتزوج من اختها منى الجواهري وهي والدتي.. و(صيت) والدي وصل الى بغداد قبل ان يأتي إليها من خلال قصيدته ثورة العشرين وبعدها غادر الى بغداد ليتحرر من بعض القيود؛ فانبهر بجمال العاصمة ومقاهيها وتعرف على مجموعة من المثقفين والشعراء مثل احمد الصافي النجفي والزهاوي والرصافي وحسين مردان، كانوا يجلسون في قهوة حسن عجمي، ومن اصدقائه صلاح خالص ومهدي المخزومي وفيصل السامر ورشيد بكداش، وفي العام 1958 جاءت الثورة وساندها.. وأسس اتحاد الأدباء ونقابة الصحفيين ورأسهما، بعدها بدات الصحف الصفراء بالكلام فنشب خلاف بينه والزعيم عبد الكريم قاسم، ومن خلال هذه الاحداث دعي الى مؤتمر في بيروت عن "الأخطل الصغير" فوجدها فرصة مناسبة للخروج من العراق الى بيروت ومن هناك الى براغ في العام 1961،إذ لم تكن فكرة ترك العراق في رأسة إلا بعد زيارة وفد الماني من السفارة الى اتحاد الادباء وطلبوا منه ان يتحدثوا معه بشكل خاص لكنه رفض وبعد الالحاح ابلغوه بان لدينا معلومات عن محاولة اغتيالك؛ فيفضل ان تغادر العراق وفعلاً استغل مهرجان الاخطل الصغير في بيروت ومن هناك الى المانيا وعند نزوله في التشيك في مطار براغ عند الترانزيت جاءه وفد من ادباء التشيك واخبروه بأنه ضيف على جكسلوفاكيا، فاخبرهم انه متوجه الى المانيا فاخبروه انها خطه لحمايته بعدها استقر في براغ".

أكدت خيال الجواهري انه "مرَّ بالعديد من التجارب العاطفية التي انعكست على قصائده واهمها (جربيني) فقد احب وهو في عمر صغير".

وعن ذكرياته مع الشاعر الجواهري، اخبرنا صباح المندلاوي زوج الدكتور خيال: " تقدمت لخطبة خيال وبارك لنا هذه الخطبة وتم الزواج وفي العام 1996 كتب لنا رباعية في ذكرى زواجنا: إنَّ خيالَ حرةٌ من خير أم وأبِ .. سبحان من صورها امرأة من ذهبِ.. وبعلها صباحها.. ياشمسه لاتغربِ.. نعم قران كوكبٍ محصَّنٍ بكوكبِ".

وتابع: "إلتقى الجواهري بعبد الكريم قبل أن يصبح رئيساً للوزراء في لندن عند دكتور الاسنان، 

ومن هنا بدات العلاقة بينهما"، مشيراً الى انه: "قرابة الخمس سنوات كان يقرأ للجواهري الكتب التي يختارها هو عندما بدأ يفقد نظره، وقد صدر لي كتاب بعنوان (الجواهري.. الليالي والكتب) حيث قرات ما يقرب من الخمسين كتاباً له.. منها كتاب علي الوردي بستة اجزاء قراتها جميعها له وهو يدقق في المعلومات لانه ناقد ومدقق ومحقق ومصوب ومنقح.. كما قرأت له "ألف ليلة وليلة" بأربعة اجزاء.. الطبعة التجارية، وكنت استمتع وانا اقرأ.. كانت ذاكرة الجواهري وكأنها كومبيوتر.. في ذات ليلة شتوية ماطرة كنت اقرا له مذكرات زكي خيري بعدها وانا آخذه الى غرفته لينام في الساعة الثانية ليلا اخبرته، هل يتذكر قصيدة (بعد المطر) التي كتبها في العام 1925 وهو الآن في عمر السادسة والتسعون فالقاها لي وانا بغاية العجب والدهشة .. وحتى عندما كان ينام في المستشفى كنت ارافقه واقرأ له الكتب".

عادة السيدة خيال للحديث عن عودة الجواهري الى سوريا واستقراره فيها حتى وفاته: "عندما كان والدي في براغ ظل حافظ الاسد ولمدة عام يطلب منه المجيء للعيش في سوريا، لكنه يرفض الى أن أخبره اصدقاؤه الأدباء: انك تحمل لقب شاعر العرب الأكبر؛ فكيف تعيش في براغ؟ومن هنا قرر الوالد ان يترك براغ ويستقر في سوريا وقد وفروا له اجواءً خيالية، وعند وفاة زوجته جاء الرئيس حافظ الاسد الى البيت وقدم تعازيه".

وبينت، أن: "(العرقجين) جزء من شخصية الجواهري والتي امتازت به ؛ إذ في عام 1961 دعي والدي الى اتحاد الادباء العالمي وهناك تعرض الى نزلة برد شُعبية فعرضوه على لجنة طبية وتم فحصه واخبروه بأن لا يوجد شيء سوى ان تضع على رأسك قبعة تقيك من الحرّ أو البرد لانه يوجد عنده تحسس من تغيرات الجو، في ذلك الوقت لم تكن هناك طاقية وبالصدفة كان الرئيس الراحل جلال الطلباني مع الوالد في المؤتمر فوصى له من كردستان بأن تُحاكَ له طاقية، فكانت من صنع السجناء، وكان اسمه مكتوباً عليها وبقيت ملازمةً له" موضحة: "طه حسين، لقبه بشاعر العرب الأكبر، عندما ذهب الى مصر وقرأ قصيدة المعري أمامه".

وأكملت خيال الجواهري: "(كام) يقرأ جالساً على سريره، وهو طباخ ماهر يعمل (التاجينة) والتشريب والدولمة والسمك.. متباهياً: من يطبخ مثلي!؟" مشيرة الى انه: "يحب اللون البنفسجي وتسحره الطبيعة ويهوى المشي ويدندن مع نفسه ويسمع اغاني، وانه في احدى المرات وهما يستقلان السيارة في مدينة اللاذقية بسوريا سمع اغنية حضيري ابو عزيز (حمام يلي على روس المباني) فأطرب لها كثيرا".

وألمحت خيال بنبرة يشوبها الحزن: "توفي في يوم مولده.. جاء الى الدنيا صباح 26 وتوفي ليلة 27 وانا وزوجي آخر اثنين شاهدناه وهو في الإنعاش الساعة الثامنة والنصف صباحا.. سلمنا عليه واجابنا بحركة من يده تشير الى التحية".

وخيال محمد مهدي الجواهري.. عضو الجمعية الوطنية الانتقالية 2004 – 2005 ولدت في بغداد 1946، دكتوراه في علم المكتبات والمعلومات من جامعة براغ.. رئيسة قسم الببليوغرافيا الوطنية في مكتبة الأسد الوطنية بدمشق 1984-1990.. أستاذة في قسم المكتبات والمعلومات، كلية الآداب.. جامعة دمشق.