أين يتقاطع الأدب مع الفلسفة؟

ثقافة وفن
  • 25-07-2022, 08:56
+A -A

كه يلان محمد
ما برح الجدل قائماً حول بعض المواضيع التي لايمكن أن ينتهيَ الكلامُ بالقول الفصل بشأنها، ولا يقفل قوس النقاش بإدراك حقيقة الاختلاف في ملعب الاشتغالات بالنسبة لكل موضع على حدة، ولعل العلاقة بين الأدب والفلسفة من أبرز ما يسحب الآراء نحو بؤرته، وتتجدد المناظرات على طاولته. فانضمام عدد من الفلاسفة إلى فضاء الأدب ومزاولتهم لكتابة الأعمال الإبداعيّة. لم يزد السجال إلا حدة.

ليصلك المزيد من الأخبار اشترك بقناتنا على التليكرام
فمن المعلوم أنَّ بعض الأعمال الأدبيّة مكتوبةُ بنفس فلسفي بل لا مبالغة في القول بأنَّ النصوص الإبداعيّة بقطع النظر عن خلفية أصحابها الفكريّة لاتخلو من بحّة فلسفيّة. لأنَّ ما يتناولهُ الأديب في منجزه الإبداعي يعبرُ عن الهواجس والأسئلة التي تطوف برواق الفلسفة أيضاً كما فضل نفرٌ من الفلاسفة صياغة شذرات نابضةٍ بالحسّ الفني، ومن خلالها يتمُّ الإعلان عن نسقهم المعرفي في التواصل مع المَفاهيم والظواهر المحركة للمسعى التأويلي، وهنا يمكنُ الإشارة إلى نيتشه الذي تختزنُ أعماله الفلسفيّة طاقةً فنيّة مؤثرة بحيثُ مايسودُ في أجواء نصوصه ينتقلُ بالمزاجِ نحو منطقة التلفسف المشحونة بمرح الشعر وغواية القصة وخفة الموسيقى. 
ومن الواضحِ أنَّ الخيال يتحركُ طليقاً في أرضية  صاحب “ماوراء الخير والشر” المعرفيّة، وهو يرى بأنَّ “العالم الحقيقي أصغر بكثير من العالم المُتخيل” وكان المفكر العراقي رسول محمد رسول محقاً في قوله بأنَّ نيتشه ليس روائياً بالمعنى التقليدي، لكن تجربته السرديّة تقتربُ من هذا الفن في بعض توجهاتها. إذن يُصنَّفُ  نيتشهَ ضمن عظماء الفلاسفة الذين كانوا على دراية بصنعة الفن والكتابة الإبداعيّة مجاوراً لأفلاطون والقديس أوغسطين وشوبنهاور. بناءً على وجود الحسّ الأدبي من عدمه لدى الفلاسفة يسترسلُ الحوار بشأنِ الحقلين بين الفيلسوفة البريطانية آرين مردوخ وبريان ماغي، طبعاً مايزيدُ الحوارُ تشعباً وعمقاً هو أنَّ المحاوِرَ ليس بعيداً من رحاب الفلسفة بل أن بريان إدغار ماغي فضلاً عن كونه سياسياً وشاعراً ومقدماً للبرنامج فهو فيلسوف. بحسب ما تشيرُ إلى ذلك  الكاتبةُ العراقية لطفية الدليمي في مقدمتها لترجمة الحوار المنشور بعنوان “نزهة فلسفية في غابة الأدب”.
 
فتنة الفلسفة
مقابل الفلاسفة المقيمة نصوصهم في منطقة الأدب ثمةَ من عرفَ أسلوبهم بالغموض أو الركاكة ولعلَّ هيغل هو المثال الأبرز للأسلوب المعقد والكتابة الغامضة، إذ إنَّ قراءة فلسفته الوعرة تتطلبُ مشقةً ومجهوداً. يعتقدُ كولن ولسون بأنَّ هيغل لو كتبَ بلغة سليمة واضحة لشمل تأثيره العالم كله مع ذلك أن مؤلف “فينومينولوجيا الروح” يرمزُ إلى  حلقة فلسفيةُ فعالةُ بتأثيرها على امتداد العصور لذلك يقول مشيل فوكو “إن عصرنا كُلّه حاول -بكل الوسائل- أن يفلت من قبضة هيغل، سواء عن طريق المنطق، أو عن طريق الإبستمولوجيا، أو عن طريق ماركس، أو عن طريق نيتشه” بحسب مقتبس خالد طحطح في مقاله “ميشيل فوكو ومناهضة التاريخانية” أياً يكن الأمر يبدو أنَّ الغموض أكثر جاذبيةً في بعض الأحيان. بخلافِ مايذهبُ إليه الفليسلوف الأميركي ريتشارد رورتي بأنَّ الفلسفة صارت ضرباً من الجنس الأدبي. فإنَّ بريان ماغي ينكرُ أن تكونَ الفلسفة تفريعاً للأدب أو حقلاً معرفياً مُنتمياً للأدب ولاينفي في الوقت نفسه إلى أنَّ الجودة في طريقة الكتابةِ تحسب للفيلسوف وتجذب له الأضواء ومن ثمّ يكون مثيراً للانتباه وموضوعا للدراسات غيرَ أنَّ الكتابة الفاتنة لاتجعل منه فيلسوفاً أفضل. ومن المعلوم أنَّ آيريس مردوخ كانت روائية وفيلسوفةً في الوقت نفسه؛ لذلك من البديهي أن ينطلقَ الحوار بالسؤال عن الاختلاف بين الحقلين والشعور الذي يتنابها عندما تشرعُ بكتابة الرواية. إذ تشير بهذا الصدد إلى مواصفات الكتابة الفلسفيّة وماتبتغيه من التوضيح والاستفاضة والتحديد بعض المعضلات والحلول المفترضة لها. ما يعني أنَّ الكتابة الفلسفية لا بُدَّ أن تخدمَ الهدف بنظر مردوخ. واللافت في هذا الإطار هو التشددُ الذي تبديه آريس مردوخ حول ضرورة انضباط الكتابة الفلسفيّة، لأنَّ الكتابة الفلسفيّة السيئة برأيها لن تكون فلسفةً في حين يختلف الأمر بالنسبة للعمل الفني حتى لو كان سيئاً لن يخرج من الملة. وأما على مستوى التلقي فإنَّ جمهور الأدب أوسع بطبيعة الحال ومردُّ ذلك هو ماتوفره المادة الأدبيّة من المتعة والأجواء الإيهاميّة بينما قد لا توازي الفلسفة الأدبَ في تطعيمِ موادها بالتشويق والبهجة. وفي الواقعِ أنَّ ما تقولهُ مردوخ ينطبقُ على الملمح التجريدي في الفلسفة والاستغراق في التنظير أما الفلسفة بمسلكها العملي ليست أقلَّ تشويقاً من الأدب. تمضي مردوخ في مفصل آخر من الحوار إلى التأكيد على أنَّ الفلسفة ليست فعالية ممتعةً بحسب المعنى المتواضع عليه لكلمة المتعة ومع ذلك قد تكونُ مصدراً للراحة وهنا تتقاطعُ  الفلسفة مع الأدب. أكثر من ذلك قد يبدو بأنَّ منطق التطور في الأدب والفلسفة متوافقاً فأفلاطون هو الفليسلوف الأفضل من بين جميع الفلاسفة وليس ثمةَ أفضل من هيومروس في الأدب على الرغم كل ما جرى من المياه تحت جسر التاريخ. غير أنَّ ما يفصلُ بين الحقلين على هذا الصعيد أنَّ الفلسفة ذات مهمة استمرارية طاغية، أما الأدب ففي نهاية المطاف ما هو إلّا شيءُ يستغرقنا ونندفع فيه تلقائياً ولحظياً وفق تعبير مردوخ.
 
البيئة الأدبيَّة
الإنسانُ كائن مجبولُ بطينة الأدب وهو لايكفُ عن تحويل مشاهداته ويومياته الى مروياتٍ، وبذلك يتنفّسُ الأدب باستمرار، إذ يستعمل الجميعُ اللغةَ من أجل الحصول على أشكال حكائيَّة مشوّقة لتجاربهم البشريّة بحسب التحليل الذي تقدمهُ صاحبةُ “الأجراس” في سياق الحوار. تعارضُ مردوخ اقحام الفلسفة في الأدب لأنَّ هذا يعني تحويل الفلسفة إلى دمية يلهو بها الكاتبُ ويحرفها عن أغراضها الحقيقية ومبادئها الجوهريّة. هنا تلتقي الفيلسوفة البريطانية مع تي إس إليوت الذي يعتقدُ بأنَّ ليس من مهمات الشاعر أن يفكر وأنَّ اجتراح التفكير ليس وظيفة لدانتي أو شكسبير. والفنُ يبلغُ مديات أكثر عمقاً بكثير من تلك التي تبلغها الفلسفةُ بفضل المخيلةِ الفعّالة؛ لذا لا مسوغَ لخلط الأوراق على طاولة الأديب أو الفنان. والغريبُ في هذا الحوار النهري أنَّ خيط الكلام ما إن يمتدَّ إلى تجربة سارتر حتى تظهر مردوخ مرونةً في آرائها الصارمة بشأنِ إمكانية التواصل بين الفلسفة والأدب، إذ تصفُ مؤلف “الغثيان” بحالة شديدة الخصوصيَّة لافتةً إلى أنَّ المرء يكتشفُ في أعمال سارتر الروائيّة وكذلك في روايات شريكته الفكرية دي بوفوار أنَّ الكاتبَ متى ما لجأَ إلى اعتماد الصوت الوجودي فإنّ العمل الفني يكتسي شيئاً من الصلابةِ، ما يجدرُ بالذكر في هذا المقام أنَّ القيمة النفعية أو الأداتية تفسدُ الروح في العمل الإبداعي؛ لذلك تقولُ مردوخ بأنَّ الكاتب ما إن يقع في وهم تغيير المجتمع معلناً بأنَّ كتاباتي هي أداة للتحول حتى يدمّرَ بذلك الإبداع في
نصوصه. 
أخيراً لا بدَّ من الإشارة أنَّ مايخلصُ إليه المتلقي من خلال متابعة هذا الحوار أن كلّاً من الفلسفة والأدب نشاط بشري ولا يصحُ القول عن إمكانية التعاطي مع أحدهما بوصفه بديلاً للآخر ويتقاطعُ الاثنان في الرغبة للخروج بالإنسان من ضيق الاهتمامات الماديّة نحو رحابة التفكير وتذوق صياغة الافتراضات في المخيلة. “نحن لانملُّ مع الكتاب المبدعين والفلاسفة لأنَّ هؤلاء يصرفون انتباهنا إلى تلك الأجزاء الحيويّة من الحياة التي إذا تم تجاهلها سيكون حالنا حال من يحرث في 
الرمل.