المكان الشعريّ الهامشيّ

ثقافة وفن
  • 10-07-2022, 09:08
+A -A

 محمد صابر عبيد
تحتفي قصيدة “أرصفة” للشاعر حميد عبد الوهاب بالمكان الهامشيّ في عتبة عنوانها ذي الطاقة الإعلانيّة المباشرة والواضحة، فعتبة العنوان هنا بصورتها الجمعيّة المنكرة تحيل على مكانيّة عامة ملحقة بمفردة مكانيّة أشمل هي “الشوارع”، إذ لا أرصفة بلا شوارع في حين توجد شوارع بلا أرصفة مما يضاعف من هامشيَّة الأرصفة على هذا النحو، لكن ضرورتها والحاجة إليها تتجلى في حالة التحضر والتمدن حين تتحول إلى قيمة ذات طبيعة جماليّة وأمنيّة على طرَفَي الشارع.

ليصلك المزيد من الأخبار اشترك بقناتنا على التليكرام
 
يتحوّل دالّ “أرصفة” العنوانيّ في القصيدة إلى أداة مجازيّة كي ينفتح المدلول سيميائيّاً على أفق مغاير يتعلّق بأرصفة الحياة في علاقتها بالراوي الشعريّ، وهو ما يتجلّى في عتبة استهلال عالية الإيجاز يصوّر فيها الراوي الشعريّ الذاتيّ علاقته بالمحيط الزمنيّ:
“المساءُ يلازمني”
تكتسب هذه المُلازَمَة -بمعنى “المُراصَفَة”- صورةً ذهنيّةً تقرّب حضور الدالّ العنوانيّ “أرصفة” من طبيعة الأداء التي ينهض بها الفاعل الزمنيّ “المساء”، فالرصيف ملازم دائم للشارع ومتعلّق به مكانيّاً ووظيفيّاً على نحو تكتمل فيه الصورة وتنضح الرؤيا، وكأنّ الراوي هنا يسعى إلى تكريس اعتراف سيرذاتيّ تكمن فيه معاني متعدّدة بين يدَي التأويل.
تعمل عتبة الاستهلال الموجزة هذه على تثبيت الصورة ووضع حدودها تسهيلاً قرائيّاً للانتقال نحو متن الفاعليّة الشعريّة في القصيدة، إذ ينفتح المتن على بنية استفهاميّة تبدو وكأنّها أشبه بالحوار الذاتيّ المونولوجيّ الذي يُسائل الذات مثلما يُسائل الآخر الكامن فيها:
“كيف سأخبركِ 
إذا كنتِ فراشةَ الصباحِ
عطرَ البساتينِ
وأنا - خلف السور-
غصنٌ غرسته الأيامُ على قارعةِ اليأسِ
وخاصمه النورُ”
تنهمك أداة الاستفهام “كيف” بالحدث المُلقى على عاتقها في ما يتّصل بالذات الراوية أكثر من حساسيّة البحث عن إجابة محتمَلة، على الرغم من حضور الآخر الأنثويّ داخل المجال الشعريّ لفعل الاستقبال “سأخبركِ” مشروطاً بتصوّر محدّد عن هذا الآخر “إذا كنتِ فراشةَ الصباحِ/عطرَ البساتينِ”، على ما بين الاحتمالين “فراشةَ الصباحِ/ عطرَ البساتينِ” من تباين في الهيئة والتكوين والتدليل، ومن تعالق وتوافق داخل الفضاء المشترك بين الصورة البصريّة والصورة الشميّة، ليظهر الضمير الأنويّ الشعريّ صريحاً فصيحاً قادراً على تعيين مكان وجوده الهامشيّ “وأنا - خلف السور-”، بحيث تبدو الحالة الهامشيّة للمكان مضاعَفَة بوساطة الظرف المكانيّ العازِل “خلف” من جهة، والدالّ المكانيّ الحاجب “السور” من جهة أخرى، بصورة التضايف التي تمنح الصيغة بالمجمل طاقة تهميش كبيرة.
تتجلّى طاقة التهميش التي بلغتها الأنا الشاعرة في قمّة فاعليّـها لحظة تصوير الأنا لذاتها على شكل “غصنٌ” يحيل على بداية نشوء الطبيعة المعطاء، يقوم الزمن المستمرّ بإطلاقه “غرسته الأيامُ” داخل حاضنة تحقّق مفارقة سيميائيّة لافتة “على قارعةِ اليأسِ”، إذ يعمل دالّ “اليأس” هنا بأعلى كفاءة مانعة للحياة الممكنة في الحالة التنكيريّة التي يعيشها الـ “غصن”، على نحو يتماثل كليّاً مع الضربة الثانية التي يتلقّاها لتكبير اليأس وتوسيع حدوده “وخاصمه النورُ”، كي تحلّ الظلمة فيه مُتّحدةً مع اليأس لإماتة الغصن ومنع وصول الإخبار الذي ينوي الراوي الشعريّ الذاتيّ إيصاله إلى “فراشة الصباح”، بما يتناسب مع ملازمة المساءِ له في استهلال القصيدة الموجَز ويسهم في العودة إلى جوهر الذات وتصويرها من الداخل.
يعدّ الذاكرة المنطقةَ الأقرب إلى حساسيّة العودة نحو جوهر الذات؛ وسرعان ما يلجأ إليها الراوي الشعريّ الذاتيّ كي يرى ما حلّ بها في ضوء حكاية القصيدة:
ذاكرتي أرصفةٌ
مرّ عليها الحبُّ ولم يتريّث
مرّ عليها الأصحابُ
واختاروا أرصفة المنفى
تحصل العودة إلى تعريف عتبة العنوان بوصفها محتوى للذاكرة “ذاكرتي أرصفةٌ”، في نوع من الإخبار الدالّ على تشتّت الذاكرة وهامشيتها؛ فلا تصلح للمكوث بل تمثّل ميداناً للعبور ومحطّة للانتقال نحو ملاجئ أخرى تنطوي على معنى الاستقرار والتلبّث، لأنّ الأرصفة غير قادرة ولا مؤهّلة لمنح الثبات “مرّ عليها الحبُّ ولم يتريّث”، إذ لا يمكن للحبّ التريّث لأنَّ “الغصن” القادر على احتواء هذا الحبّ محكوم عليه باليأس والظلمة، فلا سبيل أمامه للبقاء باحثاً عن غصن للأمل والنور قادراً على منح ما يحتاجه الحبّ من خضرة الحياة.
يأتي الأصحاب بعد الحبّ في سُلّم ترتيب الحياة من حيث الأهميّة والجدوى والفعل ليجد الراوي أنّ الزوال هو المصير أيضاً “مرّ عليها الأصحابُ/ واختاروا أرصفة المنفى”، فالمرور والاختيار عنصران يُلغيان وجود المكان الشعريّ “أرصفة”؛ ويحيلان على ما وراء ذلك “أرصفة المنفى” بديلاً عن “أرصفة الوطن” حيث توفّر أرصفة المنفى على هامشيّتها أيضاً طاقة استقبال واحتواء، تجعل الأصحاب قادرين على اللقاء بالحبّ العابر من فوق سماء الوطن.
تحقّق القصيدة نموّها الشعريّ في العودة إلى الفضاء الاستفهاميّ للإخبار حين تبلغ الحيرة سقفَها في طغيان صورة الغربة والمنفى على فضاء المحكي الشعريّ:
كيف سأخبركِ
والغربةُ تسكنني
والمنفى أجملُ من وطنٍ
سمّاهُ المعجمُ وطني
يتحرّك هذا المقطع الشعريّ بين دوال”الغربة/ المنفى/ وطن/ وطني” في حالة تداول وصراع واشتباك وتحدٍّ لصالح الغربة والمنفى، لتنتفض الذات الشاعرة وتُعلن عصيانها على الأمكنة وتزيح الـ “أرصفة” من طريق التجلّي الشعريّ، داخل فعاليّة إزاحة شعريّة تنتقل فيها رواية الخبر إلى منطقة اللغة بوصفها المنطقة الشعريّة الوحيدة الآمنة، فتحصل المواجهة الحاسمة في خاتمة الإقفال الشعريّة بين الراوي الشعريّ الذاتي والآخر الأنثويّ “الحاضر/ الغائب”، وتنعدم قدرة الراوي على الإخبار لفقدانه اللغة القادرة على حمل الخبر وإيصاله:
كيف سأخبركِ
إذا هجرتني الحروفُ إليكِ
وراحت تعانقُ سحرَ يديكِ 
يتناسب دالّ الهجرة “هجرتني” مع فضاء الغربة والمنفى وعزلة الوطن في ظلّ سيطرة الهامش على فضاء الحراك الشعريّ، لكنّها هنا تعبر من فوق المكان نحو اللغة “الحروف”، بحيث يبدو وكأنّ الآخر الأنثويّ “الحاضر/ الغائب” هو الملاذ الذي لا ملاذ بعده في هذا الفضاء الغربويّ الضاغط، كي تنفتح القصيدة على دوال عابرة لليأس والظلمة في السياق الحكائيّ المهيمن على حركة الدوال “إليك/ تعانق/ سحر/ يديك”، لتحقّق الهجرة البديلة التي يحضر فيها الحبّ ويتلبّث ويقيم ويفعل فعله الرومانسيّ والجسديّ معاً، وينتفض الغصن على قارعة اليأس ويتصالح مع النور، وتنشحن اللغة بأكبر طاقة على التعبير تكشف عن كفاءتها الملطفة في التعبير والتشكيل والتصوير والتدليل.