أنْ تبتكر وطناً

ثقافة وفن
  • 9-06-2022, 07:52
+A -A

هدية حسين
ما هي مشاعرك إن اكتشفت، بالمعنى الحرفي، بأنك لا تنتمي إلى وطن، ولا تعرف من جاء بك الى الدنيا، ولا يسمح لك بأن تطأ قدماك الأرض لأنك لست من أهل هذه الأرض أو تلك؟، بل ولدت على متن سفينة وتسللت المرأة التي خرجت من رحمها لتهرب الى اليابسة من دون أن ينتبه لها أحد؟ هكذا ستبقى السفينة تمخر عباب المحيط، تتوقف في هذا الميناء أو ذاك، ينزل ركاب ويصعد آخرون، وأنت وحدك من يبقى فتكبر هناك وتصبح رجلا مختلفاً بلا ماض ولا ذكريات، وعليك أن تخلق لك عالماً خاصاً بك وحدك.

ليصلك المزيد من الأخبار اشترك بقناتنا على التليكرام
 
النص الذي بين أيدينا (1900 مونولوج عازف البيانو في المحيط) ترجمه معاوية عبد المجيد وصدر عن منشورات المتوسط، يقول عنه مؤلفه الإيطالي أليسّاندرو باريكّو، وهو كاتب مسرحي وسيناريست ومخرج أفلام (كتبتُ هذا النص للممثل يوجينيو أليغري والمخرج غابريلي فاشيس، لا أعلم إن كان هذا كافياً لأقول إنني كتبت نصاً مسرحياً، أما الآن وأنا أراه على شكل كتاب فيبدو لي النص متأرجحاً بين مسرحية حقيقية وقصة تُقرأ بصوت مرتفع، لا أعتقد أن هنالك مسمى خاصاً لنصوص من هذا النوع، لا يهم بالنسبة لي، تبدو الحكاية جميلة وتستحق عناء قصّها، ويسعدني أن أحداً ما سيقرؤها).
نعم هو كذلك، بين المسرحية والقصة، لكن ما يهمنا هو أن هذا النص ممتع ومشوق ويثير الأسئلة ويحلق بالقارئ الى خيال خصب بما يطرحه عن ذلك الطفل الذي سيصبح أعظم عازف بيانو في المحيط، ولنبدأ بمعرفة قصته من اليوم الذي وجد فيه ملفوفاً بقطعة قماش وموضوعاً داخل كرتونة على البيانو داخل صالة الرقص المخصصة لطبقة الأغنياء في السفينة، عثر عليه البحار داني بوودمان، لم يكن الرضيع يبكي، كان مطمئناً وبعينين مفتوحتين، ربما فكرت أمه أن أحد الأغنياء سيتبناه فوضعته هناك، ما إن احتضنه داني حتى شعر بأن هذا الطفل يخصه وحده، أطلق عليه في البداية اسمه مع بعض الإضافات لكن في النهاية عُرف باسم 1900، وهي السنة التي وُجد فيها، وآثر داني أن لا يخبر السلطات، لذلك بقي من دون شهادة ميلاد، وغير منتمٍ لأي بلد.
 كان عمره ثماني سنوات عندما مات داني، وقرر قبطان السفينة أن يخبر السلطات، وفعلاً بعد أن نزل الركاب اتصل بسلطات الميناء، وأمر نائبه أن يحضر 1900، إلا أنه لم يعثر عليه، لقد اختفى، أين اختفى؟ هل رمى نفسه الى المحيط حزناً على موت داني؟ أم تسلل الى اليابسة مع الركاب؟ واصلت السفينة رحلتها، وأخيراً وجدوه في صالة الرقص جالساً على البيانو، لم يكن قد تعلم الموسيقى من قبل لكنه كان يعزف، يعزف موسيقى غريبة، وعلى مقربة منه سيدة ثرية تستمع وتذرف الدموع، ما إن رآه القبطان حتى صرخ به غاضباً: ما تفعله مخالف للنظام، فردّ عليه: فليذهب النظام الى الجحيم.
على امتداد النص تصلنا قصة 1900 على لسان عازف البوق الذي تقدم للعمل في الفرقة التابعة للسفينة وكان عمر 1900 وقتها سبعة وعشرين عاماً، أصبحا صديقين، برغم اختلافهما، فعازف البوق شاب له أسرة وقوانين تحميه ووطن ينتمي إليه، كانت ليلة التعارف غريبة، حيث تعرضت السفينة الى عاصفة مزلزلة، وعم الخوف الجميع، في وقت كان 1900 يعزف على البيانو الذي يتأرجح، يعزف وكأنه يعيش في عالم آخر لا علاقة له بما يحدث، والبيانو ينزلق على خشبة الصالة حيث تأخذه الأمواج من هنا الى هناك والى جميع الزوايا فتتحطم الشمعدانات والأرائك عندما يضربها البيانو، حتى صديقه عازف البوق الذي كان قريباً منه لم يستطع الوقوف على قدميه، كما لو أنهما يرقصان مع الموسيقى، وما إن شاهدهما القبطان حتى توعدهما بأن يسددا جميع الخسائر ويعملا في السفينة حتى آخر العمر، أما 1900 فلم يلتفت للقبطان، كان العزف يحلق به فيرى العالم بالشكل الذي يراه هو ولا يراه الآخرون. 
يرى البلدان التي ما وقفت أقدامه عليها، الكنائس والقطارات والجبال والسهوب، ونكهات الطعام في المنازل، وكل ما سمع عنه من الركاب عبر سنين حياته التي قضاها في السفينة، ويصفه صديقه بأنه كان يتقن فن الإصغاء وقراءة ملامح البشر، و(في كل يوم يضيف قطعة صغيرة الى الخريطة التي يصنعها بنفسه، التي تتسع وتكبر في خياله عن العالم بأسره، من أقصى الشرق الى أقصى الغرب، مروراً بمدن مأهولة وحانات صاخبة وأنهار طويلة وأسود كاسرة ومستنقعات وطائرات، يا لها من خريطة عجيبة) ص 31.. ولكن لماذا لا ينزل ولو مرة واحدة ليرى العالم بنفسه؟ إنه لا يحتاج سوى بضع درجات تفصل بين الأرض والسفينة حينما تتوقف في الميناء، مجرد سلّم لا قيمة له، ما الذي يدور بخلد هذا الشاب الغريب العجيب وكيف ستنتهي حكايته؟
ذات يوم توقفت السفينة في أحد الموانئ، راودت 1900 فكرة العبور الى اليابسة، تحرك نحو السلّم، وضع قدمه على أول درجة، ثم تجاوزها الى الثانية، وتسمَّرت قدماه قبل أن تصل الى الدرجة الثالثة للسلّم، كان ينظر بوجه خائف الى البعيد من اليابسة، ترى ماذا رأى ليعود الى السفينة؟ سيبوح للصديق بأنه لم يخف مما رأى، بل مما لم يره.
بعد سنوات قرر صديقه أن يترك السفينة، في وقت كانت فيه الحرب قد بدأت، ولم يعد يراه، لقد أصبح 1900 مجرد ذكرى عزيزة، إلا أن ذلك الصديق عندما علم بان السفينة لحقها عطب كبير وتقرر تفجيرها بالديناميت أسرع الى السفر، يريد أن يرى رفيقه وينقذه قبل أن تحل به كارثة، وما إن وصل حتى وجده جالساً بين خرائب السفينة، على صندوق ملغوم بالديناميت، حاول أن يساعده على الخروج لكن 1900 رفض بشدة: لن أنزل، هكذا حسم الأمر فقد ظلت الحياة على الأرض تخيفه، وفكر أن ثمة طرقاً محددة يعرفها في السفينة، تآلف معها وهي عمره الذي انقضى وذكرياته، أما على الأرض فهناك ملايين الطرق التي سيضيع فيها (أنا ولدت على هذه السفينة وكان العالم يأتي إليّ) لقد تخيل العالم الخارجي من خلال الركاب، وعاشه في خياله، وتحكّم فيه، ولا يريد مغادرته، فالسفينة عمره الذي سينقضي بفنائها، وهي وطنه ولا يريد أن يغادر الوطن.