بيئيَّة العلامة

ثقافة وفن
  • 15-05-2022, 08:33
+A -A

  أحمد شرجي
يخبرنا حسين فهيم بأن أول ارتباط بين الثقافة والعلامة تمت عند المؤرخ اليوناني (هيرودتس) في وصفه لشعوب مختلفة ومنها مصر. لقد أشار إلى علامات اجتماعية تميز بها المصريون عن غيرهم من الأقوام التي زارها. يقول: «وفي غير مصر يطلق كهنة الآلهة شعرهم، أما في مصر فيحلقونها. ويقضي العرض عند سائر الشعوب بأن يحلق أقارب المصاب رؤوسهم أثناء الحداد. ولكن المصريين إذا نزلت بساحتهم محنة الموت، يطلقون شعر الرأس». نلاحظ أن إطلاق شعر الرؤوس واللحى حداداً، علامات ثقافية مازالت تمارس حتى الآن في أغلب البلدان العربية، أو على الأقل في العراق، فلا يجوز حلقها أثناء فترة الحداد التي تستمر أحيانا لمدة أسبوع وقد لا تتجاوز مدة أربعين يوما أحيانا.

ليصلك المزيد من الأخبار اشترك بقناتنا على التليكرام
لا يمكن أن نجزم بأن هيرودتس، كان رائداً في الحديث عن العلامات الاجتماعية، لكنه استطاع في وقت مبكر جداً من الفكر الإنساني أن يشير إلى فكرة تنوع الشعوب واختلافها ثقافياً، ولغوياً، ودينياً. 
علاوة على إشارته إلى العديد من مواطن الاختلاف بين الشعوب من قبيل: البيئة، والأزياء، والأكل، وعادات الزواج وطقوسه. وهي في مجملها علامات ثقافية تميز ثقافة عن أخرى. 
ومن العلامات الثقافية الموغلة في القدم، ما نجده عند الآشوريين، فقد كانوا يميزون المرأة المتزوجة عن غيرها، من خلال الحجاب الذي يوضع على الرأس، ولعلها أولى العلامات الثقافية لحضارات العراق القديم. 
ولم تتوارث هذه العلامة حضاريا، فانحسرت مع مرور الزمن في إطار زمنها الثقافي والحضاري. وتغيرت دلالة الحجاب بعد أن أصبحت علامة دالة على المرأة الملتزمة دينيا في المجتمعات الإسلامية. وإذا كانت المرأة الآشورية تضع الحجاب على رأسها، فإنها في الثقافة الهندية تضع (النونه: نقطة حمراء) في منتصف جبينها، دلالة على زواجها. 
وفي السياق ذاته، كانت تضع المرأة العراقية المتزوجة الوشم على وجهها وأطرافها الأربع بواسطة الوخز بالإبر، وظلت هذه العلامة حبيسة زمنها الثقافي، بعد أن رفضتها الأجيال الجديدة، فاندثرت تقريبا.تترسّخ العلامة الاجتماعية بفعل تناميها وفعاليتها داخل المجتمع الذي تعيش فيه، ويمنحها حضورها الاجتماعي الحيوية الانسيابية لتتوارث عبر الأجيال. فلا تنتقل كل العلامات جيليا، بل قد تختفي سيرورتها الاشتغالية. 
ويعد محسن بوعزيزي أن العلاقة «بين الدال والمدلول، أي العلامة، مفيدة في السياق الاجتماعي العربي بما يمكن أن تكشفه من خفايا، وأنظمة كامنة ونصّيّات نمر بها من دون التوقف عندها كالصورة الإشهارية، وطقوس الزوايا وعلامات الأرصفة والشوارع، وطرق التحايل على الضغط السياسي من قبيل النكتة والاستعارة، وهذه الأنظمة الكامنة التي نستهلكها ونتداولها يوميا من دون أن نعرف كيف يمكن الولوج إليها وبناؤها عبر العلامة بما هي شيء يقوم مقام شيء آخر».
وهذا ينطبق على العديد من العادات والتقاليد. فعلامة تكسير الصحون في الثقافة اليونانية، كانت تمارس في السابق إما بعد وفاة أحد الأشخاص أو بعد وجبة الأكل لطرد الأرواح الشريرة. 
لكن في اليونان الحديثة، أخذت هذه العلامة دلالة ثقافية مغايرة، فالطقس ظل حاضرا لكن المعنى خضع لقانون التطور وناموس الارتقاء، إذ أضحى يمارس بعد الانتهاء من قضاء سهرة جميلة، اجتمع فيها أفراد العائلة أو الأصدقاء في مناسبة ما، فتكسر الصحون دلالة على نشوة اللقاء ورغبة في جلب الحظ.
 ويعزى هذا التغيير إلى اختلاف منسوب التأثير الديني بين اليونان القديمة واليونان المعاصرة. ونلفي لهذه العلامة عينها حضورا قويا في الثقافة العربية، فالعديد من المجتمعات العربية تقوم بتكسير الزجاج (آواني، صحون، أقداح) في شهر صفر، باعتباره شهر شؤم، تكثر فيه الكوارث، والهدف من عملية التكسير هو طرد الكوارث. ومن هنا نستشف، بأن العلامة تُرحَّل زمنيا بوصفها ممارسة اجتماعية، لكن يتغير معناها الدلالي. فطقسها الأنثربولوجي يتوقف زمنيا عند الأجيال التي كانت تؤمن بها.  
وترتبط العلامة حتما بالنظم والمظاهر الاجتماعية التي تنشأ في إطارها، وهو ما يتيح لها إمكانية الانفلات من سكونية النظم لتعانق حركية الفعل، لأن «العلامة ليست معزولة، بل نتاج فعل تاريخي وسياق جغرافي ومعطى اجتماعي. هكذا نرد تخوم المجهول، الخفي، من نافذة العلامة، ونغوص إلى أعماق الظاهرة أو الفعل الاجتماعي». فلكل جيل علاماته الخاصة التي انتقاها من أجيال سابقة، وأضاف إليها علامات ثقافية جديدة. ذلك أن الثقافة «تحدد مجموعة الرموز التي يتفاهم بها اللاعبون في اللعبة الاجتماعية، كما تشير في الوقت ذاته إلى المعنى الخاص الذي يتخذه العمل الاجتماعي والمؤسسات الاجتماعية في كل جماعة». فقد اعتاد المجتمع على أنظمة المرور مما أعطى للونين الأحمر والأخضر قيما دلالية، ولو كان الاختيار عكسيا لمنحا الدلالة ذاتها، لكن بإحساس مغاير للضوء، لأن الأحمر يحيل على الدم، والخوف، والخطر، والتدفق، بينما يحيل الأخضر إلى الهدوء، والتأمل، والسكينة التي تقترن بالطبيعة الخضراء.
ولكن ماذا سيحدث لو انقلبت المعادلة، وأصبح اللون الأحمر دلالة على السماح بالمرور؟ لعلنا نجد تفسيرا لذلك، بالقول: إن اللون الأحمر دلالة على تدفق الطاقة البشرية والاندفاع داخل المجتمع. في حين أن اللون الأخضر بارد، وهادئ، ويميل إلى السكينة، ولهذا يفرض علينا التوقف عنده من أجل إعداد أنفسنا لمرحلة الانطلاق مع اللون الأحمر. ومن هنا فإنه يصعب قلب الدلالة الوظيفية للعلامة، لارتباط الفرد الحسي بها، ورسوخها في الذاكرة الجمعية. فأي انزياح للدوال سيخل بمضمونها الدلالي، فالأحمر يبقى أحمر والأخضر أخضر