من أين تأتي الحكاية؟

ثقافة وفن
  • 24-01-2022, 09:19
+A -A

حميد المختار
 

ليصلك المزيد من الأخبار اشترك بقناتنا على التليكرام
منذ نعومة أظفارنا ونحن نهيم حباً وشوقاً للحكاية، منذ حكايات الجدات اللواتي غرسن في أذهاننا شوق الحكاية، فتعلّمناها وصرنا نحكيها على أترابنا، من أين تأتي الحكاية؟ وكيف تعلم الأجداد هذه القدرة على الحكي؟
الشفاهيون يكتبون حكاياتهم على الهواء حين يجعلون من ألسنتهم أقلاماً ومن شفاههم محابرَ لِيتحوّل بذلك كل هذا الهواء المحيط بمَتنِ الحكاية ورقاً شفافاً لا مرئياً ثم ليَدخل في فضاء اللا مرئيات بعيداً عن العقلنة واللمس، وربما يدخلون في فضاءات عرفانية أوسع وهم لا يعلمون، حيث كان الحكاؤون الأوائل يخزنون حكاياتهم في القلوب ومن هناك ستعبر تلك الحكايات إلى السماء؛ سماء البصيرة وسماء الترقب والتشويق وسماء الأسرار والغموض.
تبتدئ الحكاية -حكاية الوجود- منذ بدء حكاية ابليس ورفضه السجود لآدم ثم حكاية هبوط البشر على الأرض وبعد ذلك تتوالى الحكايات الأرضية منذ حكاية القتل الأولى التي حدثت على هذه الارض بين هابيل وقابيل، الوجود حكاية، والموت حكاية، ما فوق الارض ينسج الحكايات، وما تحت الأرض يخبئ الحكايات، حيواتنا مختصرة بحكاية قصيرة يحكيها رجال ونساء في غرف مقفلة وهم يحتسون الشاي، الكتب المقدسة هي حكايات الله الأخلاقية الكبرى، لكن الذي حدث أن المتفقهين والمفسرين قتلوا الحكاية وأطفؤوا جذوتها في تلك الكتب والنصوص ووضعوا بدلاً عنها أوامر ونواهي وتهديداً ووعيداً وناراً وشناراً، فاختفى كل شيء جميل هناك بينما ستبقى تلك الجذوة تحت رماد الوعي الإنساني للذين يبحثون عن سر الآلهة وسر الخلق والكون وضياع الفراديس سواء في الأرض أو في العوالم الأخرى.
الدنيا حكايات لا تنتهي نموت ونحيا فيها ونتعلم منها قبل أن نتعلم الكتابة والقراءة لأن الكتابة علم والنصَّ سرٌّ، والذين يقفون خلف النصوص كائنات حُلُمية قادرة على الاختفاء والتستر، وما بين الظهور والتجلّي والاختفاء، نعيش حيوات متقاطعة، يقول الروائي الأميركي (رالف إليسون) في روايته الرجل اللا مرئي: “لست شبحاً لكن من التميّز الاّ أكون مرئياً على الرغم من أنّه يرهق الأعصاب وينتابك الشك في أنك حقاً موجود، وتتوجع من شدة الحاجة إلى اقناع نفسك بأنك موجود حقاً في العالم الواقعي وبأنك جزء من كل الأصوات والآلام”، لذلك تحول النص السردي من هناك إلى مُتون تُحقّق لنا رغبة الوجود المحسوس، كالحلم تماماً وعمل الحلم بين الأخفاء والتستر الذي يُخفي النص عن العيون، لكن الأصابع تلمس زواياه وأمكنته، ولهذا فالتحجب هو كيفية من كيفيات الظهور كما يقول (د.عبد السلام بن عبد العال) ومعه يقول (هيراقليط): “إن ما يميز الظهور هو -الاختفاء- وهو ما يعني أن كل كشف واظهار هو أيضا تحجب واختفاء”.
دعونا نعود ثانية إلى أصل الحكاية وتحولاتها في حيواتنا السابقة والحالية، لنعرف أننا نكشف (سر الاختفاء) بفتح باب الحكاية السرّي وندخل في الغرفة الممنوعة، القادمة من حكايات (الف ليلة وليلة)، حيث يكمن فيها السحرة والقتلة والأبالسة والشياطين، ومن هناك تولد - بذرة الحكاية- ولهذا نحن وُلدنا معها - حكايات ساذجة - ثم كبرنا وتحولنا إلى نصوص مغلقة ومغلّفة بأساليب وأشكال تجريبية وقدرات عجائبية وواقعيات سحرية، وحين اقتحمت متوننا الأيديولوجيات انهارت قمم عريقة للحكاية وتحولت إلى تراتبيات حزبية والتزامات لفّتها السياسة بقماش أسود يطرد ألوان الطيف الشمسي، لهذا يعلن معظم الروائيين في العالم في نصوصهم السردية براءتهم من تلك الماكنة التي سحقت المواهب والمدارس والفنون وحوّلتها إلى مسامير في نظامها الحديدي، رفضوا كل تلك التواريخ وجعلوا من نصوصهم الروائية تواريخ بديلة وحقيقية للإنسانية، وهم سعداء وفرحون لانهم بذلك يعلنون انتصارهم لحكايات طفولتهم وبراءتهم الأولى.