الثقافة بين الصلابة والسيولة

ثقافة وفن
  • 8-07-2021, 08:32
+A -A

حبيب السامر
أحيانا، ومن دون سابق تحضير أو فكرة، تجد نفسك مأخوذاً بقراءة هذا الكاتب أو ذاك، قد يجذبك العنوان، أو ربما شخصية الكاتب، وما تسمعه من الأصدقاء في جلسة حوارية، ربما تطالع بعض مقالات مكتوبة عنه، هذه بعض ملامح عناصر التشويق للولوج في عوالم هذا الكاتب الذي أخذنا كثيرا الى عوالمه المحبوكة بتأنٍ وروية، لذا تجد نفسك منصهرا في عوالمه وآرائه وسحر اختياراته وعذوبة حرفه.

ليصلك المزيد من الأخبار اشترك بقناتنا على التليكرام
 
في الحقيقة طالعت مؤخرا مقالات جميلة عن كتابات الفيلسوف وعالم الاجتماع البولندي زيجمونت باومان وأخذني سحر كتاباته بعد أن بحثت عنها وتعمقت أكثر في قراءة الكتاب الأول من مؤلفاته العديدة حتى بدأت بكتاب آخر.. ما لفت انتباهي هو تكرار كلمة (السائلة) في عنواناته اللافتة: الأزمنة السائلة.. العيش في مكان اللايقين، الحداثة السائلة، الحب السائل، الثقافة السائلة، الشر السائل، الحياة السائلة، الخوف السائل، المراقبة السائلة، حالة
الأزمنة. 
نجد أنه يتناول ويؤكد على مفهومي الحداثة وما بعد الحداثة، ويستخدم حالتي الصلابة والسيولة في تعزيز مفاهيمه باعتماده على الحداثة السائلة بوصفها مرحلة تفكك حزمة المفاهيم الساكنة والصلبة والعمل على التحرر من الحقائق.. كون السيولة تعني الجريان، الحياة، الأزمنة،
الحب...!
 
هل هناك كاتب أكد بعنواناته تكرار السيولة مثل باومان؟
في الحقيقة يتبادر الى أذهاننا ونحن نقترب من مشارف مفهوم تناوله العديد من المختصين في جوانب الحداثة وما بعد الحداثة، وقد يطلق عليه بعض المختصين بــ (موت ما بعد الحداثة) ويتقدم آخرون ليتبنوا فكرة بعد ما بعد الحداثة، وقد نعيش في أزمنة أخرى سيجد لها بعض المهتمين تسميات وعتبات جديدة، لا سيما ونحن نعيش ما يسميه الآن كيربي (الحداثة الزائفة).. ربما هي فكرة تتداخل مع مجموعة الآراء والأفكار المتداولة والمطروحة في سجل التدوينات الزمنية والإبداعية التي يبزغ نجمها بضربة إصبع على الكيبورد.. ولو عدنا الى أبرز الجوائز التي حصل عليها بومان سنجد في البدء كانت جائزة أمالفي الأوروبية لعلم الاجتماع والعلوم الاجتماعية، التي حصل عليها عام 1992. 
وبعد ست سنوات حصل على جائزة تيودور دبليو أدورنو أيضًا، أما في عام 2010، ومن بين الجوائز الأخرى التي حصل عليها باومان كانت درجة فخرية في اللغات الحديثة من جامعة
سالينتو.
هناك من يطلق عليها (سلسلة السيولة) وما تتعرض إليه المدن والتحضر من مخاطر بالأمان على حد تعبير باومان، فإن الواقع المخيف الذي يتسلل الى عوالمنا البشرية ويجعله مرتبكا أمام فكرة عدم الاستقرار وتحولها الى (أرض رخوة) من خلال فقدان الأفكار الراسخة لمصداقيتها بعد أن انتقلت مصادر الخوف الى المدن بعد أن كانت آمنة الى شعورها بالخطر دائما بعد فقدانها الأمان.. ويتناول العديد من المشتغلين في حقل العالم النظام الجديد الى تكريس مفهوم الفردية واحلالها محل الروح الجمعية، ربما بدافع تمزق شرنقة وتكسير أواصر العلاقات المجتمعية ودخول العالم في (الدولة السجانة) محل (الدولة الاجتماعية) وتراكم المفاهيم غير الشائعة التي يتناولها الكاتب في مجموعة من كتبه والتي يدعو فيها إلى تحول الستراتيجيات المبنية على الإقصاء والكراهية، كما تبنى بعض الكتّاب مصطلحات متعددة تتناول الكراهية ومسبباتها التي تعتمد على سيكولوجيتها، وما تركته التكنولوجيا من آثار على المجتمع في تعميق مفهوم الكراهية معتمدين على سرعة الانتشار والوصول خلال وقت قصير جدا الى بيوت الجميع بنقرة واحدة على الأجهزة المتطورة. 
على العكس من بعض الكتاب الذين ينشدون المحبة للخروج من الكراهيات المنفلتة وأن الحقد هو من الأسباب التي تحاول أن تشوه الهوية في ما لو تفاقم تداوله والسعي الى تقويض عدوانيته وتعويضه بالمحبة وزرع الألفة البيضاء بين
المجتمع.
قد يكون هذا المقال مفتاحا لدخول بعض الأصدقاء الى عوالم باومان، والتوغل في مساحات السيولة المنشودة من قبله، وقد نجد ما يلفت من أفكار تتصدى الى حالات الصلابة ومحاولات النحت فيها لتتحول الى منافذ سيولة جديدة.