الناقد الجنائي

ثقافة وفن
  • 30-06-2021, 08:50
+A -A

د. أحمد الزبيدي 
 

ليصلك المزيد من الأخبار اشترك بقناتنا على التليكرام
تتحدد الرؤية النقدية لناقدٍ ما، من خلال منهجه العلمي الذي اختاره هو في قراءته للنص الإبداعي، فالناقد من دون منهج يصبح كحاطب الليل يجمع الغث والسمين. وعلى الرغم من هيمنة المناهج النقدية الحديثة في ثقافتنا المعاصرة ذات المرجعيات الفلسفية والعقلية، ومع ذلك مازال  بعض النقاد العرب المحسوبين على منطقة الحداثة يتنفسون النص بمرجعيات لاهوتية وقبلية وبلاغية قديمة.. وليس من حق القارئ أن يفرض على الناقد المعايير أو المقاييس المنهجية التي يجب أن يتبعها الناقد ولكن حين يبشرنا بأنه سيقرأ المدونة بآليات محددة هنا يحق للمتلقي أن يحاكمه في ضوء المنطلقات المعرفية المؤطرة للمنهج المتّكئ عليه.. وحتى لا يكون الكلام انشائيا سأضرب مثلا عن هذه الظاهرة السلبية في المدونة النقدية العربية.. 
فمن بين الظواهر الأسلوبية التي تصدى لها المنجز النقدي العربي هي ظاهرة (التناص) وهو في أبسط مفاهيمه (أحد مميزات النص الأساسية التي تحيل على نصوص أخرى سابقة لها أو معاصرة لها)، وحين تسأل أي طالب أو مطلوب عن المصطلح المترجم وما يقابله في النقد العربي القديم سيجيبك، سراعًا، (السرقة) ولا يختلف الاثنان على ذلك حتى وصل الأمر عند الناقد عناد غزوان أن يكتب مقالة في إحدى الصحف العراقية، في تسعينيات القرن الماضي عنوانها (التناص هو السرقة) ولست في صدد التحديد الاصطلاحي ومرجعياته الفكرية، إنما أود الإشارة إلى الأبعاد النقدية الاجرائية التي حللت وكشفت وشخصت تناصات الأدباء في مختلف الأنواع الأدبية ولعل المهيمن الإجرائي هو (الشعر). 
يكشف لك الناقد الحاذق (سرقة) شاعره عبر تتبعه لأصل النص ثم يكشف لك الطرق التي سلكها السارق في الاستحواذ على النص (الأصلي) ثم يخبرك عن ربحه أو خسارته في هذا السطو الشعرين ومن ثم تنتهي مهمة الناقد عند العملية التحقيقية والجنائية الكاشفة عن المدعي والمدعى عليه، وقد يرأف الناقد بالشاعر المتهم ويحكم عليه بالبراءة الإبداعية! أقول: إن النظرية التناصية جاءت لتعبر عن تحول فكري يتجاوز المفهوم البنيوي القائم على فكرة أن التاريخ مجموعة انقطاعات وعودة إلى الرؤية التعاقبية المخالفة للرؤية التزامنية، وعليه يكوّن التناص (طبقات جيولوجية كتابية تتم عبر إعادة استيعاب غير محدد لمواد النص.. مأخوذة من خطابات أخرى داخل مكون إيديولوجي شامل)، ومن هنا فإن الاكتفاء بالتحديد الجنائي ومواطن السرقة وعملية نقل النص والموازنة بين السارق والمسروق هو (قتل) لماهية التناص ووظيفته الفكرية والفلسفية والثقافية.. وإذا كان الناقد معجبًا بالمفهوم العربي القديم (السرقة) فهو إعجاب يدعو إلى الاحترام لما يكتنزه نقدنا العربي القديم من طاقات فكرية هائلة، وليس عيبا أن نمدّ أيدينا إلى موروثنا وإنما العيب أن نثير الأسئلة ذاتها ومن ثم نجيب الإجابات نفسها.. فللثقافة العربية القديمة سؤالها وجوابها فلمَ لا نثير سؤالا مختلفًا يميز هوية الناقد الذي كتب على جبهته النقدية أنه ناقد (حداثي)؟.