قوّة الحَكي

ثقافة وفن
  • 5-01-2021, 05:53
+A -A

ليصلك المزيد من الأخبار اشترك بقناتنا على التليكرام
محمد صابر عبيد

"أنا أحكي إذن أنا موجود"، هل يمكن أن تصلح هذه المقولة نداء لتوكيد قوة الحكي في متن الوجود البشري الحي؟ لا شك في أن الإنسان الذي لا يحكي هو من يوصف بـ "الأخرس" الذي لا يسعه إطلاق صوته نحو الخارج كي يتلقاه الآخر، فيضطر إلى ابتكار أساليب أخرى غير الحكي للتعبير عن ذاته، بما لا يمكنه تحقيق ما يحققه الحكي من حضور وتأثير وفاعلية وأداء ونتيجة، فالنداء/ الصوت هو عنوان القوة والوجود والتأثير والتواصل والتداول بوصفه الأداة الأولى للحكي، وهو يتناظر مع تحويل الصوت إلى محكي مدون يكون بوسع "الأخرس" هنا ممارسته للتعبير عن ذاته كتابةً لاصوتاً، وثمة حدود معروفة بين المحكي الشفاهي والمحكي المدون.
يتمتّع الحَكي بقوّة هائلة لا تعادلها قوّة في الكون، وهو يحظى بهذه القوّة من قدرته على التأثير في الآخر/ المتلقّي الذي يصغي دائماً لسحرٍ ينبثق من بين طيّاتِ الحكي وطبقاته، يكون قادراً على الهيمنة والتسلّط ونزع أسلحة الآخر في المواجهة والتصدّي، وجعله وحيداً في دائرة الإصغاء الكليّ المطلق باستسلام عجيب، إذ لا يمكنك كشف شخصيّة الآخر قبل أن يتكلّم ويحكي ويروي ويسرد كي يعبّر عمّا تختزنه من قوّة، في نطاق: (تكلّمْ كي أعرفك).
ينطوي الإنسان عادةً على رغبة جارفة بالحكي؛ فهو يريد أن يعبّر عن ذاته في سياق رغباته وحاجاته ومتطلباته وذكرياته وأحلامه، لأنّه بحاجة ماسّة ودائمة لأن يحكي كي يتأكّد أنّه موجود يحتلّ مساحةً ما في الحياة، فالحكي وجود (أنا أحكي إذن أنا موجود) سواءً أكان هذا الحكي شفاهاً أو تدويناً، فالحياة بلا حكي ليست سوى مكان بلا تأثيث تخلو ممّا يجعلها قابلة للعيش، لأنها من غيره ليست سوى جزيرة منفية مقطوعة عن الماء والهواء والحركة، ولا يتخلّى الإنسان عن الحكي إلا حين يموت فتنقطع سبل الحكي وتتجفّف منابعه وتتصحّر، ليكون في حكم الغائب الذي لا أثر له على سطح الحياة.
تخضع جماليات الحكي لطبيعة ثقافة الحكواتيّ، فهو لا يحكي إلا ما يمثّل جوهر ذاته ومعلوماته وطاقة خياله على الصوغ والتأليف، فثمة حكي مكرور ومُعادٌ لا قيمة له ولا يحقّق أيّة إثارة في منطقة الإصغاء، في حين يتمكّن حكي آخر في جدّته وحداثته وطرافته من إلهاب الأسماع وإثارة مجتمع التلقّي بما يتوفّر عليه من جماليات، فقدرة الحكي على تحقيق التواصل هي المقصد الجوهريّ الأساس من خطاب الحكي، ومن غير هذا التحقّق التواصليّ لا يبقى للحكي تلك الأهميّة التي تجعل منه جوهراً أصيلاً من جواهر الحياة.
يمثّل الحكي على هذا النحو الجوهر الميدانيّ الإجرائيّ للحياة في طبقاتها جميعاً، إذ كيف يمكن للحياة أن تمتلئ بالحركة والتفاعل والصيرورة والتطوّر من دون حضور أفعال الحكي وتجلّياتها وتأثيراتها، فهي الماء الذي يجعل الحياة سائغة وقابلة للاستمرار والتفاهم بين مكوّناتها، كلّ شيء في الحياة يبدأ بالحكي وينتهي به، لا تشرق الشمس إلا به ولا تغيب إلا به أيضاً، تُقام الحضارات البشريّة على أساسه وتدوم وتتحوّل إلى آثار عظيمة بوساطته، فلولاه كيف تسنّى لنا أن نتعرّف إلى حضارات قديمة لم يبق منها سوى آثارها العظيمة ومخطوطاتها ورُقَمُها، فالحضارة تحكي قصتها وتاريخها وحكمتها ومنجزها عن طريق آلة من آلات الحكي فتصلنا على الرغم من عوادي الزمن، تصلنا حين نُحسنُ التعامل مع هذا الحكي وقد انحفر في أدواتٍ ينبغي علينا قراءتها وتفكيك رموزها، فالرموز هي النوع الأكثر غموضاً وتعقيداً من أنواع الحكي وتحتاج إلى جهود كبيرة وجبّارة ومتمرّسة وخبيرة لفكّها وتأويلها.
للحياة صورتان هما: الحياة الصامتة والحياة الناطقة، وما يجعل الحياة ناطقة أو صامتة هو حضور الحكي الذي يحرّك ماء الحياة كي يطيب، وحين يختفي تصمت الحياة ثمّ تموت حين تفقد ماءها وتصبح بلا هويّة، وهاتان الصورتان تتناوبان بلا توقّف من حيث الأداء والوظيفة والموقف والنتيجة، البداية صمت، يعقبها نطق بالصوت والكلام، ثمّ يعقب ذلك سكوتٌ يفصل بين كلام وكلام، كي تستوي الأمور على نحوٍ مثاليّ يضمن للحياة تنوّعها 
المطلوب.
يمكن أن نضيف للحياة صورة أخرى هي الحياة المدوّنة، وتتمثّل بتحويل الحكي من شفاهيّ إلى كتابيّ، يخضع لضوابط وقوانين وأعراف وتقاليد بحسب نوع الكتابة ومنهجها وظرفها الميدانيّ الإجرائيّ، وتقوم العلاقة بين عقلية الحكي الشفاهيّ وعقلية التدوينيّ على بناء أنساق خاصّة لكلّ منهما في أنموذج خاصّ، فالعقل الشفاهيّ عقل صحراويّ لا يقيم وزناً للتدبّر والتمثّل والتأمّل إذ يميل بطبيعته نحو الارتجال وتقديس الصوت، في حين ينتمي العقل التدوينيّ للمدنيّة والكتابة وتكريس تقاليد النظر وإعادة الإنتاج والتصحيح.
يمكن النظر إلى الكتابة بوصفها حرفة ومهنة ترتقي إلى أعلى مراحل الحكي ودرجاته وطبقاته، وأكثرها قيمة وفناً وتأثيراً على صعيد التواصل والتفاعل، وهي الصورة المرسومة والمدوّنة للحكي بما يؤسّس لعلاقة بَصَريّة بينها وبين المتلقّي، وينبغي التعامل معها بوصفها مرحلة أعقد وأخصب وأكثر ثراءً وغنى من الحكي في مرحلته الشفويّة القائمة على آلة الصوت، وهنا تتضاعف قوّة الحكي في الكتابة وتكتسب إمكانات إضافيّة تعبّر عن أشكال الخبر والحكاية والتجربة.