كرسيّ السيّاب الجامعيّ

ثقافة وفن
  • 22-12-2020, 06:11
+A -A

محمد صابر عبيد

تعد لفظة «الكرسي» بمعناها الأكاديميّ على وجه الخصوص من الألفاظ المتداولة في الجامعات العريقة المتقدمة، حين تنتخب شخصية مرموقة لشغل هذا الكرسي في جامعة معيّنة، اعترافاً منها بخصوصيّة هذه الشخصيّة وتجربتها وخبرتها وتأثيرها في مجال تخصصي معين وتكريماً لمنجزها في هذا المجال المعرفيّ الأكاديميّ، بحيث يكون أيقونة من أيقونات الجامعة تحكي قصة النجاح والتفوق لمسيرة جامعيّة حافلة بالإبداع والنبوغ.
ونرى أنّ الأمر لا يشكّل صعوبة كبيرة لو أنّ جامعاتنا العراقيّة والعربيّة نهجت هذا النهج في تخصّصات علميّة وإنسانيّة مناسبة وضروريّة، تقفز فيه -ولو على هذا المستوى فقط- إلى مصاف الجامعات الكبرى في العالم، بحيث يكون هذا الكرسي مخصصاً باسم شخصيّة لها مُنتَجٌ أصيلٌ في مجال معرفيّ مخصوص، يظلّ الاسم في فضاء الجامعة متداولاً وشاهداً على منجَز الشخصيّة من جهة، ومعرفيّة العقل الأكاديميّ للجامعة من جهة أخرى، في مجال ربط الجامعة بالمجتمع على هذا الصعيد المعرفيّ الذي يحوّل الجامعة إلى واجهة ثقافيّة حقيقيّة مجتمعيّة تُضاف إلى واجهتها العلميّة.
إذا ما خصصنا الجامعات العراقيّة بهذه الرؤية وقد انتشرت الجامعات الحكوميّة في العراق على مساحة المحافظات العراقيّة
 جميعاً. 
وحاولنا أن نجد في كلّ جامعة عراقية كرسياً للدراسات الإنسانيّة عموماً والأدبيّة منها على نحو خاصّ، فإنّ الأمر ليس بالصعوبة التي قد يتصوّرها البعض، بل على العكس لا تحتاج سوى البحث في تاريخ كلّ محافظة عراقية عن عَلَم من أعلام الأدب المعروفين وإعلان كرسي الأدب باسمه في جامعتها، وتطوير هذا الكرسي ضمن مشاريع دراسيّة وبحثيّة وثقافيّة وفكريّة وأدبيّة أكاديميّة متطوّرة حتّى يتحوّل مستقبلاً إلى مؤسسة ثقافيّة
 متكاملة.إنّ هذا الموضوع على أهميّته وخطورته الحضاريّة الكبيرة لا يكلّف الجامعة شيئاً، في الوقت الذي يسهم في تشييد شخصيّة نوعيّة للجامعة ترفع من شأنها الثقافيّ العام ومن مستواها العلميّ الأكاديميّ، وتضاعف من قيمتها المعنويّة بحيث يمكن أن تندرج في فضاء الجامعات الراقية إقليمياً وعالمياً.
يُفترض على سبيل المثال أن تقوم جامعة البصرة في هذا السياق بتأسيس كرسيّ السيّاب للأدب الحديث، يتقلّده أكاديميّ مشهود له بالكفاءة والفكر التنويريّ الطليعيّ من أبناء البصرة، أو أديب مرموق له تجربة عميقة وطويلة في حقله الإبداعيّ من أدباء البصرة، ولا يتمّ الاكتفاء بهذا الكرسيّ بوصفه حالة أكاديميّة ذات حيّز تنويريّ محدود داخل أسوار الجامعة، بل يمكن أن يتحوّل إلى مؤسسة ثقافيّة أدبيّة ترعاها الجامعة ووزارة التعليم العالي والدولة العراقية، وتدعمها مؤسسات ثقافية وفكرية محليّة وإقليميّة ودوليّة، تكون نواة لتأسيس تقاليد أكاديميّة وثقافية رفيعة المستوى في مختلف الجامعات العراقية، على أن تتمتّع باستقلاليّة خاصّة يكون بوسع من يتقلّد هذا الكرسيّ أن يُفوّضَ في تأسيس تشكيل أكاديميّ ذي هويّة أدبيّة، يعمل فيه فريق متخصّص في الحقل الأدبيّ الخاصّ بصاحب الكرسيّ سواء أكان شاعراً أم سارداً أم مسرحياً أم ناقداً أم تشكيلياً أم نحّاتاً أم غير ذلك، وبهذا تكون لكلّ جامعة عراقية هويّة خاصّة لهذا الكرسيّ تختلف عن غيرها، ليحصل في النهاية قدر أعلى من التكامل والخصوصية في عمل كلّ كرسيّ في الجامعات العراقية.
فلو افترضنا أن يتقلّد هذا الكرسيّ القاصّ محمد خضير في جامعة البصرة، ويكرّس جهده في بناء تقاليد راسخة تتولّى إدارة المتطلبات الأكاديميّة والأدبيّة لهذا الكرسي، ويمنح صلاحيات خاصّة ومستقلّة تجعله قادراً على تنفيذ أفكاره الطليعيّة النوعيّة والإسهام الإجرائيّ في تطوير فنّ القصّة على وجه الخصوص، والعمل على جعل جامعة البصرة في كرسيّها القصصيّ بيت القصة العربية الحديثة على المستويات كافة، إذ إنّ القاص محمد خضير بعد هذه التجربة الغزيرة في مجال الكتابة القصصيّة صار عَلَماً من أعلامها الكبار في عموم الوطن العربيّ، وبوسعه الآن لو تتاح له هذه الفرصة أن يقدّم الكثير فكرياً ونظرياً وإجرائياً على أكثر من صعيد وأكثر من مستوى، ويجعل من هذا الكرسي مركزَ تنوير طليعيّاً متقدّماً في مجال فنّ القصّة، وفي الوقت نفسه يبقى اسم السيّاب حيّاً في جامعة البصرة بوصفها مدينة الشاعر بدر شاكر السيّاب ومدينة القاص محمد
خضير.
ينطبق الكلام نفسه على الجامعات الأخرى إذ تنتخب كلّ جامعة ما يليق بهذا الكرسيّ من أبنائها على هذا النحو، ويمكن ألّا تكتفي الجامعة الواحدة بكرسيّ واحد في مجال واحد، بل قد يكون مستقبلاً هذا الكرسي في كلّ كليّة من كليّات الجامعة، وربّما في كلّ قسم علميّ، حتّى يتحوّل إلى ظاهرة ثقافيّة وفكريّة أكاديميّة من أجمل وأهم الظواهر التي سيكون لها شأن عظيم لاحقاً، حين تترسّخ تقاليدها وتتجذّر رؤيتها وتحصل على نتائج واضحة وصريحة تتحوّل الجامعة فيها إلى مؤسسة كبرى، لاتكتفي بالجانب المهنيّ الدراسيّ التقليديّ بل تتجاوز ذلك إلى عطاء علميّ وثقافيّ وفكريّ لا ينضب من القيم العليا، وهي تسهم في جعل المجتمع جزءاً من الجامعة والجامعة جزءاً من المجتمع بطريقة راقية ومنتِجة وفعّالة، ويكون لهذا الكرسي المفرد والجمع دور تنويري متقدّم في حركة الحضارة بما يعكسه من إشعاع ونور وعلم وثقافة وفكر.