الفنون العراقيَّة المهاجرة

ثقافة وفن
  • 8-12-2020, 05:42
+A -A
ياسين النصيِّر
كنا نتداول نكتة عندما نجلس في مقهى السنترال وسط عمان، أن الأردن ليست بلداً غريباً ما دمت تصل إليه بسيارة من علاوي الحلة، والحقيقة ليست هذا، هذا من أوهام الشخصية العراقية المهاجرة، الحقيقة أن بغداد ضيقت على المثقفين العراقيين لتصبح عمان المدينة التعويض، من هنا أصبحت المفارقة مؤلمة، حيث وجدنا الأمل في بلد لم يكن يوماً مدار اهتمام أي أمل، لقد فتحت عمان ذراعيها وبيتها الثقافي للعراقيين، وهذه ميزة تحسب لها، كما أنها لم تضايق أديباً أو فناناً تشكيلياً، إذ لا يوجد في جعبة الفنان غير حقيبة قماش الألوان والأقلام، وهذا لا يؤثر في اقتصاد البلد المتقلب، وهو ما سمح للفنانين بممارسة حضورهم بقوة، ومن تعمقت رؤيته للوضع الاجتماعي والاقتصادي الأردني، يجد أن الطبقة البرجوازية الأردنية النامية ترغب في تزيين مساكنها ومدينتها، ولم يكن غير الفن العراقي جودة ورخصا، وهو هاجس اقتصادي يوازي بناء عمان برأسمال وافد.
فعمان الجديدة كانت لاعباً ماهراً، حين وجد الفنانون العراقيون فيها أرضية خصبة للوحتهم الفنية في بيئة ممطرة، خضراء، خالية من الغبار، وتمنحك عمارتها البيضاء إثارة للرؤية، ومادة بصرية لتشكيل رؤية فاحصة، كل هذا جعل من عمان مدينة اللوحة القابلة المتحولة من البداوة إلى الحضارة،خاصة وأن الرأسمال المستورد والوطني، بدأ يلعب دوراً في تنمية الحس الفني التزييني للمدينة، أسوة بتجديد المواصلات، وعمارة البيوت، وتعمير المناطق الخالية، وشق مشاريع الطرق، وسائط النقل، الأمر الذي أصبح لعمان روح مادية يمكنها أن تنزع عباءتها البدوية، فاحتوت جزءا كبيرا من هالة بغداد الحضارية، لقد أصبحت عمان مدينة للوحة الفنية الجديدة، حيث تداخلت ألوانها مع السماء والمطر والأعمدة، كتشكيلات جمالية، وعندما وجد الفنان والرأسمالي بأن علاقة الفنون بحياة المدينة اليومية تكسبها طراوة أسلوبية، لتنقل الذائقة العامة إلى ثيمة اقتصادية لعديد من مشروعات مراكز الدولة وبيوت الأرستقراطية النامية، فتحولت مدينة عمان من مدينة ذات اتجاه واحد للسير في الطرق، إلى مدينة الحركة والبضاعة والتصدير، والفن والتجديد، وأصبحت هويتها الجبلية مرنة مضاءة، من دون أن تفقد علاقتها. بخلفياتها الروحية.
هكذا وجد العديد من الفنانين العراقيين أمكنتهم ضمن مناخ مديني/ ديني متنوع، لا يضع محرمات على البحث والرؤية، بقدر مما تمنح الفن طاقة للبحث، لقد وجد الفن العراقي الراديكالي مجاله في المزاوجة بين اللوحة وحال مدينة متحركة، الأمر الذي أشعرك أن الفنون التشكيلية تتسابق مع فنون العمارة، في صياغة الهويات، لقد وقفت لوحة الفنانين العراقيين على قدميها، عندما أضافت الحركة اليومية لحياة المدينة، خاصة حركة السوق والبضاعة وانتعاش الورش الصناعية المحلية، والتبادل التجاري والنقدي، فاللوحة كسائر الفعاليات الثقافية ترتبط بحركة المدينة اليومية، لذلك لا يخلو بيت من بيوت عمان الأرستقراطية من اللوحة العراقية، لقد جسدت موضة الفن التشكيلي العراقي طريقة لتأكيد الهوية المعمارية للمدينة المتروبول المتغيرة، على أن الفن حاجة اقتصادية، خاصة ان نهوضها في عمان رافق نهوض إعادة الإنتاج التكنولوجي للمدينة، ما شكل ذلك لحظة تاريخية للفن العراقي من أنه سيواصل حضوره وتميزه، بالرغم مما عاناه في بغداد، لينتقل بعد ذلك بهذه الخبرة إلى دول أوروبا، وهو يحمل إرثاً شرقياً وجد السياح الأوربيون فيه قيمة جمالية. 
فالفنون التشكيلية في عمان لم تكن تزيينية، حين جسدت ما هو زائل وعابر لتبني واقعاً قابلاً للتطور، فعمان المدينة تتحرك باتجاهات عديدة لإثبات هويتها المتروبولية، ولم يقف الأمر على اللوحة، بل نجد ذلك في الأزياء، وبناء البيوت، والمضافة، والمطاعم، والمسارح، والأغنية، إن التلاقح الذي انتجه الفنانون في الأردن لا يقدر بثمن، لأنهم غاروا في جوهر العلاقة مع بنية مدينة لم تتخل عن شعبيتها. إن من يتابع تطور الفنون في المدينة المتروبول يجد أن اللوحة تخلت عن المواضيع الكبيرة، واهتمت بالجزئيات، لتعمل منها عجينة ثقافية تعكس جوهر مدينة ساعية إلى التجديد.