الاستقلاليّة

ثقافة وفن
  • 8-12-2020, 05:37
+A -A
تتردد كلمة "الاستقلاليّة" كثيراً في الأوساط السياسيّة والإعلاميّة والفكرية على نحو بالغ التركيز والتداول، والافتعال أحياناً، وتعني عند روّاد هذه الأوساط - فيما تعنيه- أن صاحبها لا ينتمي إلى أيّ جهة من جهات الجدل الدائر في مجاله وفي محيطه، وهو كما يقول تعبيرهم السياقيّ الشائع والمتداول "يقف على مسافة واحدة من الجميع"، أي أنه لا يتحيّز لأي أحدٍ من أطراف النزاع حول أية قضية، ويعاين الأمر من موقع ثابت خالص في "لا انتمائه".
بمعنى آخر إنّ هذا المستقلّ هو لا ينتمي لفكرة أو حزب أو تيار أو فلسفة أو جماعة أو فئة ضدّ أخرى مطلقاً، ويتّخذ هذا الموقف بدوافع إنسانيّة يراها هو تساوي بين الجميع بلا استثناء، ولا شكّ في أنّ هذه الصورة للمستقلّ وتوصف اصطلاحاً "الاستقلاليّة" ينبغي أن تكون على هذا النحو منزوعة العواطف والمشاعر والمواقف تماماً، كي يتمكّن صاحبها من الوقوف في منطقة وسط بين الأفكار المطروحة المتصارعة بلا ميلٍ إلى أحداها على حساب الأخرى.
تتشكّل شخصيّة الإنسان كما هو معروف في شتّى أنواع الدراسات الإنسانيّة المتنوّعة من مجموعة مشتبكة من العواطف والمشاعر والأحاسيس والأحلام والتجلّيات والتطلّعات، على النحو الذي لا يمكن فيه وضع هذه الصفات في ميزان شديد الدقّة والتوجيه والتخطيط والضبط، لا يميل ولا يُخطئ ولا ينحرف ولا ينزاح، والإنسان بطبيعته خطّاءٌ بما يستحيل عليه أن يكون مستقلاً في أيّة قضية من قضايا الحياة والمجتمع والوجود، لا بدّ أن يكون له موقف خاصّ وواضح من كلّ شيء يتّفق أو يختلف فيه مع آخر أو آخرين، موقف ينسجم فيه مع طبيعة تشكّله الوجدانيّ والفكريّ والثقافيّ والرؤيويّ استناداً إلى طبيعة البيئة والمرجع والذاكرة والانتماء الفطريّ.
إنّ حساسيّة الانتماء لموقف معيّن على هذا النحو هو أمر طبيعيّ وإنسانيّ لا بدّ منه في ما يصطلح عليه "الاختلاف" حيث قال قائل "الاختلاف في الرأي لا يُفسدُ للودّ قضية"، بمعنى أنّه يمكن أن يكون عاملاً إيجابياً لا سلبياً وبعيداً عن هذه الاستقلاليّة التي تبدو غير مفهومة في هذا السياق، حتّى أنّ التنازل عن الرأي الذي يمكن أن يكون معارضاً لصالح الاستقلاليّة يمكن أن يكون نفاقاً على نحوٍ من الأنحاء، حين يتعمّد الإنسان التخلّي عن رأيه في قضية معيّنة تفادياً لحرجٍ ما في موقفٍ يحتاج إلى حسمٍ وتوكيدٍ وقطعٍ وإشهارٍ.
تعبّر الاستقلاليّة بهذه الصورة عن خِيارٍ سِجْنيّ يضع الإنسانُ نفسَه في قفص يَبعدُ بمسافةٍ ليست قليلة عن تأثيرات المحيط الاجتماعيّ والثقافيّ، وتعزيز هذا القفص بأعلى درجات الحماية والعزل لتوفير فرصة الاستقلاليّة المنشودة والادّعاء بوقوفها على مسافة واحدة من الجميع، وهي تمثّل موقفاً سلبياً من المكان والزمن والأشياء تتعمّد عدم الاكتراث بما يجري؛ منعزلةً عن شتّى أنواع التأثيرات المحتمَلَة، وهو موقف يوصف بالحياد تجاه المحيط يجعل هذا الإنسان المستقلّ بمنأى عن الأخطار التي يمكن أن يجبلها وضوح الموقف، وثمّة مثل شعبيّ ينطبق انطباقاً كبيراً على هذه الوضعيّة يقول بشيءٍ من التفصيح "أَضْربُ الكلَّ وأحظى بالكلِّ"، وينطوي فعل الضرب هنا على فائدة يجنيها كما ينطوي فعل الحظوة على فائدة أكبر، فهو يجني الفائدة في الحالين داخل موقف انتهازيّ يوهم بما يُصطلح عليه "الاستقلاليّة" في اتّخاذ موقف واحد من الجميع.
لكنّ هذا لا يعني بطبيعة الحال أنّه لأجل ذلك يبقى الإنسان متشبّثاً بفكرة مُعيّنة ينافح عنها على طول الخطّ، فقد يكون له رأي ما في قضيةٍ اليوم ومن ثمّ يتغيّر موقفه منها غداً، بما يحرّضه على الدفاع عن فكرته بقناعةٍ حين تكون ثابتة لديه، وحين تتغيّر أيضاً، فالإيمان بالأفكار والقيم والتقاليد مرهون دائماً بعوامل كثيرة لا حصر لها، وهي قابلة للتغيير والتبديل اعتماداً على تطوّر الحياة وتطّور ثقافة الإنسان ورؤيته للأشياء، ولا يعيبه إذا ما آمن بفكرة في يومٍ ما ودافع عنها ثمّ ما لبث بعد مدّة أن تخلّى عنها وتبنّى فكرة أخرى وجدها أكثر جدوى، بحيث يكون صادقاً ومؤمناً في الحالين ومتطابقاً مع ذاته تطابقاً تاماً بعيداً عن تأثير المحيط والماحول، بما يؤكّد خرافة مفهوم الاستقلاليّة وعدم قدرته على تمثيل الرؤية الحضاريّة للإنسان في الفصل بين الحقّ والباطل، بين الأبيض والأسود، بين الليل والنهار، بين الصواب والخطأ، بين الخير والشرّ.
لا تتحقّق الاستقلاليّة بالانسحاب الكامل من المشهد والتفرّج على الأفكار والقيم والاجتهادات والآراء وهي تتصارع على نحوٍ جدليّ، فإذا كان هذا الصراع الحضاريّ يخدم الفكر البشريّ في السبيل نحو تخصيبه وتثميره فلا بدّ من موقفٍ واضحٍ يدعم هذا التوجّه، ويسهم في تكريس قيم الجمال والحريّة والثقافة والحضارة والروح الإنسانيّة المُحبّة للخير والسلام، على النحو الذي يُشيع فضاء التسامح وقبول الآخر والتفاعل معه بعيداً عن التعصّب والادّعاء الفارغ باحتكار الحقيقة، لا بدّ من الانتماء للقيم النبيلة الراقية وهي تنطوي على طاقة إيجابيّة وقدرة متقدّمة للإسهام في جعل الحياة فرصة للفرح والبهجة والسعادة، وأن يكون الإنسان مع الخير ضدّ الشرّ ومع السلام ضدّ الحرب ومع الضوء ضدّ الظلام، ومع صفاء ذاته ضدّ التباسها وحيرتها.