التصميمُ.. إنعاشُ المكان

ثقافة وفن
  • 17-11-2020, 05:21
+A -A


محمد صابر عبيد
تقوم فلسفة التصميم أساساً على استثمار المكان والسعي إلى إنعاشه وتحويله من مكانٍ محايدٍ إلى مكان محتشد بالقصدية والمعنى والجمال، إذ يتنوّع هذا المعنى الجماليّ المقصود بحسب نوعية التصميم وطريقته وهويّته لأنّ التصميم عالم مدهش بالغ التنوّع والتعدّد، من تصميم الحدائق وتصميم الواجهات الخاصة بالعمارات والتصميم الداخليّ لها إلى تصميم الملابس والمجوهرات والحفلات والحلوايات والأطعمة، وسلسلة طويلة لا تنتهي من التصاميم.
فكلّ شيء في الحياة يحتاج للتصميم كي يحصل على درجة إنعاش معيّنة تنقله من الحياد إلى الانتماء، ولا بدّ من حضور الاستعداد والموهبة والمزاج والرؤية والفضاء لدى المصمّم ليكون بوسعه بلوغ الدرجة المطلوبة لتصاميمه، وفرض حضورها الجماليّ المدهش على المكان.
لا يمكن لفعاليات التصميم بأنواع كافة أن تنفصل في أطروحتها التصميميّة عن المكان وطبيعته وزواياه وظلاله وحساسيّته، أو أنّها لا تأخذ الفراغ بعين النظر والمعاينة الدقيقة لأنّه عنصر أصيل من عناصر التشكيل لأيّ تصميم، فالفراغ المكانيّ هو المساحة المثاليّة التي تتحدّى المصمم في طريقة وعيها وإدراكها واستثمار طاقاتها، ومهما كانت القطعة التي يريد المصمم تصميمها فهي في البداية تكون مجموعة من الفراغات التي تملأ المكان، والمقصود بالمكان هنا هو المكان الماديّ للقطعة التي يرغب المصمم بالاشتغال عليها وصوغ فضائه التصميميّ بها، فهو يتعامل معها على أساسِ نوعٍ من التحدّي الضمني إذ هي لا تمنح نفسها بسهولة، في حين هو يحاول استخلاص الصورة التخييليّة التي تتشكّل في خياله للتصميم من مكانيّتها وانتزاعها من حيّزها الخفيّ، ومن ثمّ إظهارها بحسب رؤيته وتقديمها للعالم صورة أخرى لا تنتمي إلا لخياله التصميميّ الخاصّ، معبّراً عن رؤية نوعيّة يضع فيها قدراً من روحه ومزاجه وحساسيّته وفكره وخياله ورائحته.
إذا لم يتحوّل التصميم إلى لغة مشحونة بفكرٍ معيّنٍ فإنّه ينتهي إلى مجرّد عبث طفوليّ لا قيمة تشكيليّة له، فمصمّم الحديقة أو البيت السكنيّ أو الواجهات الخارجيّة لمبنى حكوميّ أو تجاريّ أو ترفيهيّ على سبيل المثال يحاول أولاً أن يستوعب فضاء المكان، ويدرس مدى استجابته وتلاؤمه مع نوع التصميم ومقاصده، فضلاً عن طبيعةِ تفكيرِ من يستخدمونه ودرجة وعيهم وثقافتهم وحاجتهم النفسيّة والمعنويّة في تلقّي فضاء التصميم، والحساسيّة الجماليّة التي يمكن أن تستجيب لنوعية المكان المصمَّم في التأثير على المحيط المرتبط به، وفاعليّته في استدراج أبصار الرائين للتفاعل مع فلسفة التصميم وقدرته على الاستقطاب وتمثيل الرؤية المكانيّة.
مصمّمة "كيك الأعراس" على سبيل المثال تقول إنّها لا يمكن أن تصمّم "كيكةَ عرسٍ" من دون أن ترى العروس وتجالسها وتتعرّف على مزاجها، فهذا يلهمها كثيراً من الأفكار التي تجعل من هذا التصميم خاصاً بهذه العروس ولا يليق بغيرها، ومصمّم "محابس" تزيّن أصابع اليد يقول إنّه يصمم المحبس مرة واحدة فقط لا تتكرّر، فكلّ محبس يصمّمه هو وحيد لا توجد نسخة أخرى منه، وذلك حفاظاً على خصوصيّته وفرادته وهويّته، وهو ما يجب أن يطبّق على أشكال التصميم كلّها من أصغر تصميم إلى أكبر تصميم، حتّى تتحوّل هذه الفرادة إلى ميزة جماليّة خاصّة يحتفظ التصميم بها دائماً ومن دون منافِس.
يتقدّم الديكور بوصفه أحد أشكال التصميم الذي ينسج علاقة صميميّة وثيقة بالمكان، أو هو بمعنى من المعاني تصميم المكان، إذ يتدخّل المصمّم في توزيع مفردات الديكور على المكان بحسب حاجة كلّ جزء مكانيّ حتّى تكتمل الصورة العامّة للتصميم، فحين يضع قطعة ديكوريّة معيّنة في مكان ينبغي أن تكون الملاءمة بينهما في أعلى درجاتها، لذا فهو قد يجرّب وضع القطعة في أكثر مكان إلى أن يصل إلى الوضع المثاليّ تماماً، ويشعر عندها أنّ هذا المكان بالذات هو القادر على استيعاب هذه القطعة جمالياً ووظيفياً، فالمكان يؤدّي دوراً بالغ الأهميّة في بناء إحساسٍ فنيّ يكون بوسعه إظهار القيمة الجماليّة للقطعة بكفاءةٍ كاملةٍ، بحيث إنّ وضعها في أيّ مكان آخر لن يحقّق إطلاقاً ما حقّقه هذا المكان، بما يجعل من حساسيّة التوافق المكانيّ مع الأشياء في مقدّمة القدرات والكفاءات التي يجب أن يتحلّى بها المصمّم.
ينبغي أن يتكوّن التصميم ويتشكّل في خيال المصمّم أولاً على نحوٍ ما، ثم بعد ذلك يذهب نحو التنفيذ والعمل الميدانيّ، فهو يشبه الإيقاع الذي يتكوّن في أعماق الشاعر أو السارد ويتردّد في فضائه قبل الشروع في كتابة العمل الشعريّ أو السرديّ، ومن دون ذلك يبقى هناك فراغ تصميميّ لا يساعد المصمّم على الابتكار لأنّه يفتقد هنا أداة أساسيّة من أدواته الفنيّة.
تسهمُ أدوات كثيرة ومعقّدة في بناء العقل التصميميّ لدى المصمّم، منها الثقافة والخبرة والمزاج وسعة الأفق والاطلاع والحوار والسفر والبحث والتقصّي والحساسيّة والخيال والتأمّل والتركيز والانتباه، بوصفها عوامل مشتركة لصناعة مصمّم ينطوي على براعة وخصوصية وفرادة لا يمتلكها غيره، فكلّ مصمّم هو نسيج وحده لا يشبه مصمّماً آخر 
ولا يشبهه مصمّم غيره، وعليه أن يعي تمام الوعي هذه الخصوصيّة ويعمل باستمرار على تطويرها وتفعليها وإدامتها، وإدراك قيمتها في السبيل نحو مزيد من الابتكار الجماليّ