ممرض بصري ينثر روائح الجنوب في آفاق الوطن لمواجهة كورونا

تحقيقات وتقارير
  • 10-07-2020, 15:07
+A -A

البصرة- علي جاسم السواد- صبا سامي

مرة أخرى تتناثر في أفق الوطن روائح الجنوب المعمدة بضفاف شط العرب والمنتشية بملح الهور حين يعانق رحيل الشمس، الممزوجة بضجيج السفن الراسية في أطراف أرض الرافدين، مرة أخرى تهب ريح تلك الأرض التي لم تبخل يوما على شعبها بالعطاء ليعانق نسيمها المشبع برمالها السمراء ثلوج الجبل في شمال الوطن فتتشكل لوحة الطيب والجمال على شكل العراق.
أرض لا ينجب رحمها إلا الأشاوس ولا يغرس في طينها إلا باسقات النخيل، ولا يعكر مزاجها إلا وجع الوطن، إنها ثغر العراق وديمومة خيره وعطائه، ففي جيكورها خط السياب أروع صوره، ليحول بويب إلى نهر يتدفق في ذهن الأدب، وعلى أديمها يتعانق دجلة والفرات، وبين ثناياها مربد يتغزل في عشق طائر يحلق في سماء مدنها من دون هوادة.
فبينما تتسارع الخطى لمواجهة فيروس كورونا، يقضي المعاون الطبي والتقني في التحليلات المرضية محمد كريم حميد يومه، متجولا بين ردهات مستشفى الموانئ في البصرة، متسلحا بفطرته الجنوبية غير مبال بخطر هذا الوباء، صانعا بسمة أمل في قلوب المصابين وبصوته الشجي يسترد في ذاكرة الزمن أغانيا عراقية عالقة في الوجدان، يتهادى بين مرضاه برشاقة ويغني لشاب هنا ويداعب ضمير امرأة مسنة هناك، وكأنه استمد من حضارة سومر تلك الفطرة العظيمة لمعالجة المصابين، باعثا فيهم روح الأمل للتغلب على الفيروس.
مقاطع الفيديو التي تم تداولها لهذا الجنوبي الأصيل أكدت عراقة هذه الأرض، فأسلوب محمد في معالجة المرضى لم تدونه كتب الطب ولم تتضمنه بروتوكولات العلاج العالمية، بعد أن اكتشف هذا الممرض أسلوبا فريدا في التعاطي مع المرضى، فصوته البصري لا يزال يعزف في أذهاننا ويمنحنا قوة الأرض المالحة التي طالما كانت عصية على نائبات الدهر.
تخفيف الضغط النفسي
وكالة الأنباء العراقية (واع)، كان لها نصيب في سماع صوت هذا العراقي الأشم، والذي تحدث عن تجربته الفريدة في معالجة المصابين بفيروس كورونا، قائلا: "الجميع يعلم أن الغناء العراقي ممزوج بالشجن الحزين وهي صفة يتميز بها أهالي الجنوب نظرا لبيئتهم وظروف الحياة، لذلك لجأت إلى استحضار هذا النوع من الأغاني لتخفيف الضغط النفسي الذي يعاني منه المصابون بكورونا، وطبعا الأغنية التي أديتها أمام المرأة المسنة (أمي يا أم الوفة يا طير من الجنة) خرجت بشكل تلقائي، صحيح أن أبناءها أوصوني على الاهتمام بها ورعايتها، لكن ما أن رأيتها حتى خرجت الأغنية من تلقاء نفسها، وتذكرت أمي التي فقدتها منذ سنين، وبدأت بالغناء من صميم قلبي، وهذا الأمر انعكس بشكل إيجابي على وضعها الصحي، خاصة وأنها تفاعلت معي بعد سماع الأغنية".
تفاعل كبير
وأضاف "لم أتوقع أن تلاقي طريقة الغناء التي أؤديها أثناء معالجة المرضى تفاعلا من الرأي العام العراقي والذين أعربوا عن إعجابهم بهذا الأسلوب الفريد للعلاج كونه أسلوبا غير مسبوق".
وأشار إلى أن "ردود الفعل لم تقتصر على المواطنين فقط بل من الجهات الرسمية، فقد أشاد محافظ البصرة أسعد العيداني بطريقة تعاملي مع المرضى وكذلك الكثير من الشخصيات من مختلف محافظات العراق، وكذلك تعاطي وسائل الإعلام مع مقاطع الفيديو التي تم نشرها وأنا أغني للمرضى، وهذا التفاعل منحني ثقة كبيرة في تقديم المزيد للمرضى وسأستمر على أداء الأغاني للمرضى لأنها أثبتت نجاحا كبيرا في تسريع تقبل المصابين للعلاج".
راحة نفسية
بين ردهات مستشفى الموانئ تجولت (واع) وتوقفت عند أحد المرضى، الذي تلقى العلاجات على إيقاع أغاني الممرض محمد، وقال: "إن الأسلوب الذي اتبعه هذا الممرض جعل جميع المرضى يشعرون براحة نفسية، وأنا شخصيا انتظر بلهفة وقت العلاج حتى أستأنس بصوته العذب وهو يطربني بأغنية من أغاني الزمن الجميل، وأعتقد أن نجاح العلاج يعود نصفه إلى فضل هذا الإنسان المهني الذي يحترم عمله ويحرص على التخفيف عن مرضاه".
فيما عدّ مريض آخر "صوت محمد لقاحا نفسيا ضد كورونا، لما يحمله من شجن جنوبي ممزوج بطيبة البصرة"، مشيرا إلى أنه "وصل إلى المرحلة الأخيرة من العلاج وسيغادر المستشفى في غضون يومين أو ثلاثة بعد تشافيه من الفيروس، لكن ستبقى أغاني محمد عالقة في قلبه كونها إحدى عوامل الشفاء من هذا الفيروس اللعين".